الأربعاء، 22 نوفمبر 2023

حكم التبرع لأهل غزة تعاطفا!

 حكم التبرع لأهل غزة تعاطفا!

د. حاكم المطيري

جاءني هذا السؤال

السلام عليكم ورحمة الله، شيخنا الفاضل:

أنا كلما شاهدت صور ضحايا غزة أشعر بتعاطف شديد وأتبرع لهم، وربما لولا هذه الصور قد لا أتبرع، أو لا أتبرع بمبلغ كما ينبغي فهل لي أجر في ذلك؟

 الجواب/ وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته..

وكتب الله أجرك، وشكر لك عطفك ورحمتك، وكما في الحديث الصحيح: (الراحمون يرحمهم الرحمن)، (ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء).

وهذه رحمة يودعها الله قلوب عباده مؤمنهم وكافرهم فبها يتراحمون ويتعاطفون حتى قال النبي للذي سأله بأنه يرحم الشاة أن يذبحها؟ فقال ﷺ: (والشاة إن رحمتها رحمك الله، والشاة إن رحمتها رحمك الله).

إلا أن الواجب على المسلم استحضار النية في كل عمله، خاصة فيما يبتغى به وجه الله والثواب الأخروي، فإنه لا بد فيه من النية والإخلاص وابتغاء وجه الله وحده، كما في قوله تعالى‏: ‏﴿إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكورا﴾، وقوله عن المؤمنين: ‌‏﴿ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم﴾ والتثبيت هنا التصديق واليقين بوعد الله لهم بأن ما ينفقونه سيجزيهم الله عليه الجنة.

وكل عمل قد يُفعل رياءً ويدخله السمعة فإنه يجب الإخلاص فيه، كالإنفاق للمال، قد يكون رياءً ابتغاء الذكر الحسن في الناس والجاه بينهم، فيجب الإخلاص فيه لله وحده، بحيث لا يمنع الإنسان من الإنفاق عدم علم الناس بما أنفق، ويستوي فيه الإسرار والإعلان.

وكذا القتال فإنه قد يُفعل رياء ليقال بطل شجاع، وقد يفعل حمية للوطن والعشيرة، فيجب الإخلاص فيه لله وحده كما في الصحيحين: (الرجل يقاتل ليرى مكانه؟ والرجل يقاتل حمية؟ أي ذلك في سبيل الله؟ فقال ﷺ: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله).

ولهذا جاء في صحيح مسلم: (إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال: جريء، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل تعلم العلم، وعلمه وقرأ القرآن، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم، وعلمته وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل وسع الله عليه، وأعطاه من أصناف المال كله، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال: هو جواد، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه، ثم ألقي في النار).

وذلك أن هذه الأعمال قد تكون لوجه الله، وقد تفعل رياءً وابتغاء السمعة والجاه، فوجب فيها الإخلاص لله، كما في الصحيح: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك معي غيره تركته وشركه).

وكذا اشتراط النية وهي أن يقصد المسلم الفعل على جهة العبادة -وهي غير الإخلاص- فكل عمل تشتبه فيه العبادة بالعادة، فإنه لا بد فيه من النية لتمييزه، فإنفاق المال قد يكون عادة كالهبات والهدايا، التي يتهاداها الناس فيما بينهم، وقد يكون عبادة كالزكاة ونوافل الصدقات، فيجب استحضار النية في العبادة منها دون العادة.

وكذا تجب النية لتمييز فرائض العبادات من نوافلها.  

فالصدقة -غير الزكاة- قد تكون واجبة على كل مسلم إذا صار الجهاد فرض عين، كما هو حكم الجهاد في غزة اليوم، على أهل فلسطين، وعلى جميع من وراءهم من المسلمين، وتكون كذلك واجبة فرض كفاية في كل جهاد في سبيل الله يحتاج إلى المال، فالمخاطب به الجميع حتى يقوم من يتحقق به الواجب.

وعليه فليس ما يدفعه المسلمون في الجهاد اليوم في غزة صدقة مستحبة، بل الأصل أنها فريضة واجبة عليهم، بالجهاد بأموالهم في سبيل الله، فإن الله أوجب على كل مسلم في جهاد فرض العين بذل النفس والمال في سبيله، فقال‏ تعالى: ‏﴿انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله﴾، وقال سبحانه: ‏﴿لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون﴾، وهو أطيب المال وأحبه إلى صاحبه، فإن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، كما في الحديث الصحيح، وقد توعد الله من بخل بماله عن الجهاد في سبيل الله فقال: ﴿ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ولله ميراث السماوات والأرض والله بما تعملون خبير﴾.

أو هي على أقل أحوالها نفقة واجبة على كل مسلم إجمالا دون تحديد مقدارها، وإنما بما طابت به نفس كل مسلم بذله لوجه الله وفي سبيل الله، دون تمييز القدر الواجب فيها من المستحب، كمن عليه حقوق للغير لا يعرف مقدارها، فيدفع لهم حتى يطمئن بأنه أدى ما عليه، وهذا يجعل من النية شرطا أيضا، فإن المسلم في الزكاة الواجبة في ماله يجب عليه اعتقاد أنه يؤدي فرضا لله عليه، وحقا في ماله للفقراء، لا تبرأ ذمته إلا بدفعه لهم، فلا يصح أن يدفعه على أنه تبرع وإحسان منه عليهم، حتى ينوي أداء الفريضة عليه وإن لم يعرف مقدارها، ليرتب عليها ثوابها. فلو تبرع المسلم ببعض ماله، وعليه زكاة واجبة، ولم ينو دفعها بهذا التبرع؛ لم تبرأ بذلك ذمته بلا خلاف، كمن صام تطوعا وعليه صوم فريضة، فإنها لا تسقط عنه بصوم النافلة.

وقد جاء عن أبي بكر في وصيته لعمر: (لا تقبل نافلة حتى تؤدى الفريضة).

فالواجب على كل مسلم أن ينفق ماله أداء لفريضة الجهاد في المال في سبيل الله، ويستحضر هذه النية، ويخلص فيها العمل لله ‏﴿فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا﴾ [الكهف:١١٠].

كما أن على الأغنياء وأهل الزكاة أيضا ما ليس على غيرهم في هذا الباب، وذلك أن من الأئمة كالزهري والشافعي وداود الظاهري وغيرهم من يشترطون تعميم الزكاة على الموجود من أهل الأصناف الثمانية المذكورة في سورة التوبة ‏﴿إنما الصدقات للفقراء والمساكين … وفي سبيل الله﴾، فيجب عندهم دفع سهم في سبيل الله لمستحقيه، ولا تبرأ ذمة المزكي إذا لم يدفع من زكاته للمجاهدين من سهم في سبيل الله، فعلى كل صاحب زكاة إخراج سهم في سبيل الله، وإذا أخرج زكاته بنفسه فإنه يجعل الخُمس منها على الأقل للمجاهدين في سبيل الله في غزة، والباقي على الفقراء والمساكين والغارمين وابن السبيل من أهل غزة فهم أحوج إليها من غيرهم حتى تقف الحرب وترتفع النازلة.

وكذا يفعل المسلم في كل سنة فيجعل خُمس زكاته للمجاهدين في سبيل الله في أي بلد يجاهد أهله العدو الكافر، حيث تعطل هذا السهم حتى لا يكاد يخرجه أحد، فضعف المسلمون عن دفع العدو، مع أنه سهم الله وفي سبيله، فإن اشتدت حاجتهم أكثر من غيرهم جعل كل زكاته لهم، لمجاهديهم ومساكينهم ومهاجريهم.

والقصد أن التعاطف مع أهل غزة والتبرع لهم لا يسقط الحق الواجب على كل مسلم تجاههم، وهو الجهاد في سبيل الله معهم بنفسه أو بماله، وحقيقة الجهاد هو بذل الوسع والجهد والطاقة في نصرتهم، لا بما تيسر من فضلة ماله، فإن الله اقترض أموال المؤمنين في مثل هذا الجهاد فمن بخل فإنما يبخل عن نفسه والله هو الغني الحميد.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق