الثلاثاء، 26 مارس 2024

لا تلعنوا هولاكو وحده!

 لا تلعنوا هولاكو وحده!

ويذكر في التاريخ أن أمير المؤمنين المستعصم العباسي لم يستوعب الدرس، ولم يعرف أن عقوبة الفساد مستمرة، وإن تنوعت أساليبها، وقد رأى الخليفة المستعصم بنفسه طرفا من ذلك قبل أن يقتله المغول رفسا بأقدامهم!!

يقول الهمذاني في كتابه: “جامع التواريخ”: “إن هولاكو بعد أن اقتحم بغداد، دخل قصر الخلافة، وأشار بإحضار الخليفة المستعصم وقال له: “أنت مضيف ونحن الضيوف.. فهيا أحضر ما يليق بنا.. فأحضر الخليفة ـ وهو يرتعد من الخوف ـ صناديق المجوهرات والنفائس، فلم يلتفت إليها هولاكو، ومنحها للحاضرين، وقال للخليفة: “إن الأموال التي تملكها على وجه الأرض ظاهرة، وهى ملك لعبيدنا، لكن اذكر ما تملكه من الدفائن، ما هي وأين توجد؟”.

فاعترف الخليفة بوجود حوض مملوء بالذهب في ساحة القصر، فحفروا الأرض حتى وجدوه، كان مليئا بالذهب الأحمر، وكان كله سبائك، تزن الواحدة مائة مثقال”.

واستحق الخليفة احتقار هولاكو السفاح الدموي، إذ تعجب هولاكو، كيف يكون للخليفة كل هذه الكنوز ثم يبخل على الجنود بأرزاقهم؟!!

ولم ينس هولاكو أن يذكر ذلك في منشوره الذى أرسله إلى حاكم دمشق، ينذره بالتسليم، ويخوفه من مصير الخليفة العباسي وما حدث لبغداد، ويقول فيه عن الخليفة المستعصم: “واستحضرنا خليفتها وسألناه عن كلمات فكذب، فواقعه الندم، واستوجب منا العدم، وكان قد جمع ذخائر نفيسة، وكانت نفسه خسيسة، فجمع المال ولم يعبأ بالرجال”.

وقد أورد المقريزي خطاب هولاكو بالتفصيل…

ونعود إلى الهمذاني وهو يروى ذلك اللقاء بين هولاكو والخليفة في قصر الخلافة فيقول: “إن هولاكو أمر بإحصاء نساء الخليفة، فبلغن سبعمائة زوجة وسرية وألف خادمة!!!

وتضرع له الخليفة قائلا: “مُنَّ علىَّ بأهل حرمى اللائي لم تطلع عليهن الشمس والقمر”.

يقول الهمذاني: “وقصارى القول، إن كل ما كان الخلفاء العباسيون قد جمعوه خلال خمسة قرون، وضعه المغول بعضه على بعض فكان كجبل على جبل (وأخذوه جميعه)”.

وبسبب ذلك الكم الهائل من الكنوز التي ورثها هولاكو من الخليفة العباسي، فإنه صهرها جميعا في سبائك وأقام لها قلعة محكمة في أذربيجان.

لقد كان هولاكو – ذلك الهمجي السفاح – يعي تماما أنه عقاب إلهى للخلافة العباسية والحكام الظلمة في المنطقة، وحرص على إبراز هذا المعنى في رسائله إلى الحكام، يقول في رسالته إلى حاكم دمشق: “إنا قد فتحنا بغداد بسيف الله تعالى، وقتلنا فرسانها، وهدمنا بنيانها، وأسرنا سكانها”.

ويقول في رسالته إلى السلطان قطز في مصر: “يعلم الملك المظفر قطز ـ وسائر أمراء دولته وأهل مملكته بالديار المصرية وما حولهاـ أنا نحن جند الله في أرضه، خلقنا من سخطه، وسلطنا على من حل به غضبه، فإنكم أكلتم الحرام، ولا تعفون عن كلام، وخنتم العهود والإيمان، وفشا فيكم العقوق والعصيان، وقد ثبت عندكم أنا نحن الكفرة، وقد ثبت عندنا أنكم الفجرة”!

وربما استفاد السلطان قطز من هذه الرسالة، فكف المماليك عن الظلم، واستعاد شعوره الديني، وفى غمرة عين جالوت، حين أوشك جنوده على الفرار صرخ “وإسلاماه” وألقى بخوذته، ونزل للمعركة بنفسه، فكان الانتصار.

هكذا تقوم الدول وتنهار، وأساس الانهيار يبدأ من الداخل، وقد يأتي تدخل خارجي ليعجل بالسقوط، ولكن يظل الانهيار الداخلي هو بداية النهاية وعاملها الأكبر.

وإنما يأتي الانهيار الداخلي حين تتكون طبقة مترفة تتحكم في الثروة، وفى الجماهير، فتنشر الظلم والانحلال وتحيل حياة الأكثرية إلى جحيم تهون فيه الحياة، وتتضاءل فيه الفوارق بين الحياة والموت.

والقرآن الكريم يضع العلاج في تشريعاته الاقتصادية التي تمنع تركز المال في يد فئة واحدة، ويأمر في الوقت نفسه بالزكاة والإنفاق في سبيل الله، بل يأتي الأمر أحيانا في صورة التهديد كقوله تعالى: {وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بأيديكم إِلَى التهلكة وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}(البقرة:195).

ومعناه أنه إذا لم يكن هناك إنفاق على الجهاد في سبيل الله فالتهلكة هي المقابل، وإذا كان هناك إنفاق في سبيل الله فلا مجال إذن لتركز المال في طبقة قليلة العدد يتحول ثراؤها إلى ترف.

ويقول تعالى مهددًا المسلمين في عصر الرسول: {هَا أَنْتُمْ هَٰؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ ۖ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ ۚ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ ۚ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ}(محمد:38).

لقد أساء المعتصم في تعامله مع خدمه وأتباعه فأغدق عليه في المناسبات مئات الألوف من الدنانير في الوقت الذي كان يتضور فيه العلماء والشرفاء جوعا.

فهل بعد كل هذا نظل نلعن هولاكو وحده؟!!


*المصدر: “الحق المر” ـ الجزء الثاني

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق