السبت، 23 مارس 2024

هل أتاكم نبأ المدينة؟

 هل أتاكم نبأ المدينة؟


هل أتاكم نبأ المدينة التي تجدد أنسنتها في محيطها حتى سابع جار في كل الاتجاهات والمواقف؟ المدينة التي خالفت قواعد الأنسنة التي يراد لها أن تستمر وفق سياسة التذلل والتردد والتبعية، المدينة التي أعادت نفخ الروح في الجسد المسجى على أبواب التسول عند البيت الأبيض وباكنغهام وشوارع الإليزيه وحائط بيليفو برلين، المدنية التي لم يأتها رزقها رغدا من كل باب أو بالأحرى المدينة التي أصبحت تعيش الدمار على شاطئ غير ذي زرع بجوار المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله. المدينة التي حاولت أن تعيد فلسفة البناء الروحي لقلبها النابض على عمق يزيد عن 50 مترا تحت الأرض، المدينة التي أرادت تغيير جملة من التحيزات الفكرية في فهم ما يدور في العالم من سيطرة رأسمالية وسطو راديكالي ونهب فاشي واعتناق ليبرالي وتعصب شوفيني والتخلص من الأساليب الديماغوجية وفك ربقة التحكم وفق النظرة المكيافلية، فتلك هي المدينة التي تأنسن نفسها على فصول الحرب وثورة التحرر وفق قوة إيمانها وسمو مبدئها.

نعم إنها المدينة التي لا تشبه مدينة موستار الواقعة جنوبي البوسنة والهرسك التي عملت على محو آثار الحرب بين عامي 1992 و1995 عبر الفرشاة والألوان، وبالتأكيد فهي لا تشبه كذلك كابول أو قندهار اللتان خاضتا أشرس حربين مع الروس والأميركان، بل هي المدينة التي تشبه نفسها ولا تتماثل مع مدن أخرى من ناحية إنسانية وعقائدية، هي المدينة التي تتغير رائحتها مع كل شهيق وزفير لصدر غزي، هي المدينة التي جاء رجل من أقصاها فقال: يا قوم اتبعوا الذين لا يسألون عن الأجر والمال ولا يريدون جاه الدنيا.

هناك ومن بين الأنقاض ثمة شرف يغزل ليواري سوءات الهوان والخضوع، وهناك ومن بين الحطام وأشلاء المرابطين ثمة كرامة تُعضد بغصن الزيتون

عندما تتفرد منطقة في محيط واحد بشيء عن أخرى فتلك هي الميزة التي تجعلها في أفق الرؤية، وعندما يتوسع هذا التفرد فتصبح تلك البقعة حاملة روح المقاومة في سبيل إعادة شيء من تاريخ وحضارة الأمة فتلك هي الرسالة والحديث المتواتر في كل كلمة وجملة من السجع إلى الطباق إلى الجناس اللغوي إلى التماثل والتشبيه، فتكون الجغرافيا بؤرة الاسقاط لكل تصرف أو حادثة في المحيط الإنساني ومضربا للمثل، وتصبح المدينة وأنسنتها وجه المقارنة ومعاييرها حتى مع مختلف المتناقضات التي أيقظت الكثير من الضمائر المتصلة والضمائر المنفصلة، والضمائر المنسوخة والممسوخة، لأنها بكل بساطة مدينة صانعة للحاجة وكل شيء فيها قابل للتدوير وأن يكون ناطقا بشرفها وشرف أمة بات على شفير الهاوية، فأيقظت الغافلون من هلوسة المارد الذي لا يقهر.

هناك ومن بين الأنقاض ثمة شرف يغزل ليواري سوءات الهوان والخضوع، وهناك ومن بين الحطام وأشلاء المرابطين ثمة كرامة تُعضد بغصن الزيتون، وهناك ومن بين خط الحياة الرفيع والمغادرة للالتحاق بركب الشهداء ثمة فتيل يوقد من شجرة مباركة، وهناك وفي كل شبر ومع كل شهيق يقين بالنصر الذي يضيئه نور الحرية ولو لم يمسسه بارود ونار، وهناك وعلى مسافات من سطح الأرض ثمة خطط وحصص تدريبية لما تكتب بعد في مقررات أكبر الجامعات، ولم تدرس في أشهر الكليات والميادين العسكرية.. وهناك ومن على منابر الفعل ثمة لثام يغطي عنفوان الرجال لتكتب قصص لجنود مجهولين همهم إعلاء شوكة الإسلام دون بروتكولات منصات الخطابات الإنشائية والكلام المعاد.

لم تكن أحداث طوفان الأقصى الفاصل الزمني الذي يؤرخ لامتداد حقبة الاحتلال والاستعمار الغربي المنتهك للحقوق المرتبطة بالمعتقد الديني التي لم تنفك توقفا أو احتراما للآخر، ولم تكن تفاصيل الإبادة وصورها ذاكرة رقمية تمسح بضغطة زر واحد أو كما يسميه البعض "حبة خشم" وينتهي مسلسل التسلط والظلم.

هناك طفل لا يفطم على حليب سائغ الشراب، بل طفل بلغ الفطام بهمة رجل رضع البارود فرأى المستقبل بكل تفاصيله فعرف واجبه، فخر له الجبابرة خائفين، وهناك أم حملت فاجأها المخاض على أزيز الطائرات ودوي القنابل وهي تتستر بلباس الصلاة فنذرته محرراً وقرة عين لتلك الحياض، وهناك شيخ يرفع الحطام ليبحث عن إنفاس متجددة فيعيد فيها ثورة الحرية وبقاء المبدأ؛ "إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر ولا بد للقيد أن ينكسر". وهناك شاب سدد رميه عبر بندقية "الغول" فكان الحصاد كثيرا ووفيرا، فكبروا خلفه محرمين "فإما مناً بعد وإما فداء" حتى تضع الحرب أوزارها، وعلى مقربة من تلك العراص المزهوة برائحة النصر هناك أسماء تهز الكيان إن لاح طيفها نثرا وشعرا قصدا كان أم سهوا،أسماء ا-ل فهناك السنوار والضيف وأبو عبيدة وغيرهم الكثير ممن إذا قالوا فعلوا، فلا ترهقهم بروتوكولات الظهور وألوان السجاد، ولا يلقون بالا لثغاء النعاج.

أما هنا فالأمر يسير بين وتيرة رتم الحياة المليئة ببذخ الأقوال، وتواضع الإحساس عند الأفعال، فالعامة يدفعون بسلاح المقاطعة التي أدركها الطفل قبل الكبير حتى شكّلت منطقه الإسلامي وانتماءه الروحي تجاه ما ينقل إليه، وهنا القلوب مختلفة وبعضها مختلة عن واقعها لانشغالها بنظرية الوفرة: أي وفرة وكثرة القضايا المطروحة بداعي الانشغال عن الأصل، وكل المطروح هدفه تشتيت التركيز وتمييع الفكر ورفع التوافه إلى مصاف القدوات، وهنا جملة من المتناقضات التي لم ترفع شأن الفرد ولم توحد توجه الجماعة، إلا ما رحم ربي. لذلك فإن الجميع يعرف ماذا نقصد ب"هناك" كذلك يعرفون ويدركون القصد ب"هنا"، وشتان بينهما.

لم تكن أحداث طوفان الأقصى الفاصل الزمني الذي يؤرخ لامتداد حقبة الاحتلال والاستعمار الغربي المنتهك للحقوق المرتبطة بالمعتقد الديني التي لم تنفك توقفا أو احتراما للآخر، ولم تكن تفاصيل الإبادة وصورها ذاكرة رقمية تمسح بضغطة زر واحد أو كما يسميه البعض "حبة خشم" وينتهي مسلسل التسلط والظلم، ولم تكن العلاقة بين العرب والغرب مختلفة أو متغيرة عن أنماط الاستعباد والاستبداد الغربي ونظرتهم الدونية لأصحاب البشرة السمراء أو رعاة الأبل، ولا يمكن التكهن بأن الأنظمة استطاعت أن تُرضع مجتمعاتها من الخوف والذل في مهدهم ليتربوا عليه كيفما أرادت تلك التوجهات، ولا غرابة في أن نصل إلى مرحلة الإسفاف المعرفي عندما نجعل وسائل التواصل الاجتماعي مرجعا أو نافذة توثق الحالة الراهنة لأوضاعنا اللإنسانية وبها نقيس قوة الأجيال وتوجهات النخب، مع يقيننا التام بأن ذلك الكيل الكثير من المعلومات والبيانات الهزيلة  تعتمد في ظهورها وبلوغها "الترند العالمي" على لعبة الخوارزميات وتحكم العقل البشري فيها.

في السابق كان أصحاب الفكر أو ما يعرف بـ طلاب العلم هم الذين يقودون ثورات التنوير وتوجيه الجماهير نحو الإحساس بحقوقهم التي رزحت تحت نير الاغتصاب والاحتلال، أما الآن فهل توجد فئة أو نخبة تقوم بذلك الواجب تجاه الشعوب؟ وهل الاستعمار بدوره المستبد في أبعد تصنيفاته أوجد له بديلا بوضع النظام الوكيل الشرعي له وابتعد عن بؤرة الصراع؟

ثمة أسئلة تراود الحقيقية عن نفسها، كيف ستواجه دول المؤامرة فكرة التمدد الإنساني لو توسعت رقعة المعاناة والألم والجوع من قطاع غزة ليس إلى القدس والضفة الغربية فحسب وإنما إلى الطاولة التي تدبر فيها المؤامرة وإلى ما وراء البحار حتى الرجاء الصالح؟ ماذا يحدث لو تمرد الواقع على النظريات الافتراضية الرقمية، وخالف مناهجها وما تعد له من عدة؟ ماذا لو قطع دابر الذين شيدوا قصور المؤامرة وجاءهم الهلاك بغتة؟ ماذا لو فرض الذكاء الاصطناعي نفسه سياسيا لتتحول رمزية الحكم والملك من واقع إلى أيقونات افتراضية تدار من على بعد؟

بكل تأكيد تحرص الأنظمة الوضعية المحافظة على مصالحها بما يضمن لها البقاء والتحكم في ثروات الأوطان، وتوجيه المجتمعات نحو التبعية التي لا يمكن أن تفكر في الثورة أو التعبير عما يجثم على صدورها، فالتوجيه نحو فهم الواقع من حيث قوة إدارة الجماهير وتكريس شعبية القانون والأنظمة التي تكفل أدنى الحقوق وفلسفة الأمان بدون مقابل، زادت من مسارات التوافق التي يعتقد أنها تسير وفق تراض بين الطرفين، وهذا ما تؤطره نظرية الندرة التي تدفع أصحاب الحقوق إلى التفرغ التام لقضيتهم المصيرية (الجوع / الشبع) باعتبارهم الشيء النادر الذي لا يتكرر، فيما تكون فكرة التشتت الحافز نحو تجاهل ما يحدث على حدود الجيران والانشغال بالوضع الداخلي بطريقة انهزامية أكثر منها نظامية، أو تدفع إلى إيجاد مراجعة مجتمعية حتى في ظل وجود التحزب المجتمعي والحوكمة المؤسسية.

في السابق كان أصحاب الفكر أو ما يعرف بـ طلاب العلم هم الذين يقودون ثورات التنوير وتوجيه الجماهير نحو الإحساس بحقوقهم التي رزحت تحت نير الاغتصاب والاحتلال، أما الآن فهل توجد فئة أو نخبة تقوم بذلك الواجب تجاه الشعوب؟ وهل الاستعمار بدوره المستبد في أبعد تصنيفاته أوجد له بديلا بوضع النظام الوكيل الشرعي له وابتعد عن بؤرة الصراع؟ لذلك لم يقدم لطرفي الصراع (النظام وشعبه) أي ملامح يمكن التريث في دراستها أو إعادة شيء من معاهدات التفاوض لتنظيم تلك العلاقة، لذا كان الوكلاء على الاحتلال أكثر حرصا على الحفاظ على صيرورة الحالة التي أجازت لهم توزيع الثروات، مع الوضع في الاعتبار مراعاة مصلحة المحتل حتى حين.

لا تبحث نساء غزة عن آخر صرعات الموضة في عيشهن ولباسهن، فالموضة عندهن هو أن يدنين عليهن من لباس الصلاة ليسترهن عندما ترتقي أرواحهن إلى سماء الشهادة، لأن القصف إذا جاء لا ينتظرهن لالتقاط صورة تزيد من عدد المتابعين لهن، فهل حقا أتاكم نبأ المدينة ومن فيها؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق