إني أرى الجنرال عاريا
عز الدين دويدارتنويه : هذا المقال طويل نسبيا ويحتاج لقليل من الخيال ويفضل أن تكون متفرغا لدقائق عند قراءته ويا حبذا لو كان هناك من يعد لك فنجانا من الشاي أو القهوة .. غير كده ماوعدكش تكمل بعد أول 4 سطور
بعد انقلاب 52 ظل العسكر يحكمون مصر بشرعية الثورة وقوة دفعها حتى العدوان الثلاثي على مصر . امتزجت حينها شرعية الثورة بشرعية المعركة ومواجهة الإحتلال وكانت البدلة العسكرية هي منبع السلطة .. و شعار الحكم . لا صوت يعلو فوق صوت المعركة ...
لم يكن العسكر بحاجة ساعتها لدولة مدنية او حتى لواجهة مدنية للحكم ولم يكن هناك من يطالبه بها على أي مستوى .. فلا أحزاب ولا برلمان ولا دولة في الأصل ..
مصر كلها كانت عبارة عن معسكر يقوده عسكريون يخوضون به معركة لا صوت فيها إلا لميكروفون القائد وأي صوت يشوش على صوت الميكروفون الأعلى للقوات المسلحة هو صوت خائن فلم يكن هناك خطر داخلي على حكم العسكر
.. فنحن في معركة ولكي تضمن دولة العسكر الحد المعقول من الغطاء الشعبي والتمثيل المدني المستأنث شكلت تنظيمات مدنية مثل الاتحاد الاشتراكي والتنظيم الطليعي وهكذا .. بحيث تستوعب حراكا مدنيا محدودا يشارك في اسناد وإمداد دولة العسكر في معاركها الخارجية والداخلية
ظل الحال هكذا حتى معاهدة كامب ديفيد
فبتوقيع المعاهدة انتهت المعركة وخفت الصوت الذي لا صوت فوقه وأدركت دولة العسكر أن عليها أن تقدم للناس ما يمنحها شرعية الحكم في ظل غياب الخطر الخارجي وشرعية المعركة ..
وبدأت تظهر مخاطر داخلية اجتماعية وسياسية وأقتصادية على حكم العسكر كل رصيد السنوات السابقة بدأ يطفح على السطح ويشكل خطرا متسارعا في مواجهة الدولة العسكرية مباشرة
كيف تتعامل دولة العسكر مع مخاطر داخلية يمكن أن تستنزف فيها شرعية بقائها ؟
كان الإتجاه العبقري للسادات بخلعه للبدلة العسكرية وانشاء الحزب الوطني والمنابر وتقديم نخب مدنية ومشروع حياة سياسية افتراضية دولة عسكرية بواجهة مدنية فيها حزب حاكم وحكومه لها رئيس وزراء معروف وله دور ومساحة في الإعلام وبرلمان وانتخابات ونظام سياسي وهكذا
كان هذا تحولا هاما ...
فابختصار كان هذا التحول كفيل بأن يحصن الدولة العسكرية بشكل دائم من أي مخاطر داخلية أو تقلبات سياسية
خفت ذكر الجنرالات في الإعلام والنقاش العام في الشارع في مقابل ذكر الوزراء والنخب المدنية ..
وانشغل السياسيون والمعارضون بالصراع السياسي فيما بينهم على مقاعد البرلمان والمحليات بعيدا عن دائرة الحكم الأصلية التي يحتكرها الجنرالات
ومع كل تزايد للغضب الشعبي والمشكلات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية فيكون الحل هو تغيير حكومة الحزب الوطني الفاسدة بحكومة أخرى من الحزب الوطني لم يعرف عنها الفساد بعد
وهكذا ظلت دولة العسكر تدير المشهد بواجهة مدنية كلما سقط جلد وجهها غيرته بجلد جديد
وهكذا وتحول الرئيس لرئيس مدني مستمر بآلية افتراضية بانتخابات أو استفتاء
فأصبحت دولة العسكر تحكم وتحتمي من المخاطر الداخلية بثلاث طبقات من المدنيين :
طبقة الأحزاب والبرلمانيين ... كلما طفح فسادهم وفاحت رائحتهم يتم التضحية بهم بدرجة أو بأخرى
طبقة الحزب الحاكم والحكومة ورئيسها ... كلما زاد السخط الشعبي يتم تحميلها كل التبعات وتغييرها
طبقة الرئيس بالبدلة المدنية المستفتى عليه وحاشيته .. وهذا المستوى لا يتم التضحية به إلا في حالات الخطر القصوى على وجود الدولة العسكرية ذاتها ... كما حدث مع السادات
مشكلة السادات انه أراد ان ينتقل لمرحلة جديدة تحت وقع حالة الزعامة والشعور بالقوة بعد مرحلة أكتوبر ..
مرحلة يكون هو فيها رئيسا مدنيا مستقلا
لكن هذا الإنتقال تعارض مع رغبة دولة العسكر الحاكمة .. فتم التخلص منه بتمرير وتأمين اغتياله
أما ما حدث في 25 يناير فقد كان مفاجئا لدولة العسكر فقد باغتهم الشعب بإسقاط مستويات الواجهة المدنية الثلاثة
البرلمانيين والأحزاب والسياسيين والنخب . الحكومة ورجال الأعمال . الرئيس
فوجئ مجلس الجنرالات أنه بلا غطاء وأن كل النخب والبدائل والمستويات التي صنعها ورعاها من بداية التنظيم الطليعي قد سقطت ولم يعد له أدنى رصيد من بدائل
حتى أحزاب المعارضة الديكورية كالوفد والتجمع والناصري وغيره لا تصلح بحال حتى لتشغل مجتمعه مجلس محلي محافظة
اضطر العسكر لأول مرة منذ 35 عاما للتقدم للحكم بشكل مباشر بدون غطاء مدني
ومن هنا نستطيع أن نستوعب العنف والإرتباك الذي كان يواجه به العسكر أي احتجاج من أي نوع ضد حكم العسكر بعد الثورة وحتى التسليم الشكلي للسلطه بالانتخابات الرئاسية ..
فقد كانت كل مظاهرة وكل هتاف ضد العسكر يهدم في الجدار الأخير لحكم العسكر مباشرة .. ولم تنجح حكومة شرف أو الجنزوري أن تشكل جدارا من أي نوع يتحمل عن دولة العسكر الضربات ... لكن فعليا استطاع العسكر بانتخاب البرلمان تقديم الإخوان ليكونوا أول حائط صد مقنع يستطيع تلقي الضربات ودفع ضريبة فشل العسكر وفساده
وعمل العسكر على تسخير الإعلام ليلقي بكل قاذورات سنوات حكم العسكر على جدار الإخوان ..
أخطأ الإخوان بقبول هذا الدور والإنشغال بمعركة مجلس الجنزوري المفتعلة عن معركة مجلس طنطاوي
وأخطأ الشباب بتوجيه سهامهم للإخوان في البرلمان وقبول لعبة التشتيت والإلهاء
وأخطأ الإثنين بعدم إدراك الفرصة وتوجية سهام الميدان والبرلمان لحائط العسكر
والحقيقة أن العسكر كانوا منشغلين بأمر آخر أكثر أهمية ..
هي المهمة التي بدأت يوم 12 فبراير ولم تتوقف حتى 6/30 انشغل العسكر ببناء نخبة مدنية جديدة ..
أحزاب وشباب وحركات وسياسيون وإعلاميون وأكاديميون وغير ذلك مولوا أحزاب ودعموا شباب وفتحوا الإعلام والمجالس والموائد والقاعات لسياسيون وأكاديميون ونخب خرجت من تحت الأرض أو هبطت من السماء أو عادت من الإغتراب أو أفلست فقدمت فروض الولاء أو تمكنت من غسل يديها ولحقت بالقطار
ثلاث سنوات من العمل المتواصل أحرقت الدولة العسكرية فيها كل النخب المدنية التي قدمتها الثورة سواء شباب أو اسلاميين
وبالتوازي أعاد العسكر بناء مستويات الحماية المدنية الجديدة
حتى جائت اللحظة التي تستطيع فيها دولة العسكر العودة وعلى أكتافها نخبتها الجديدة التي تمكنها من إعادة الكره
هذه المرة لن يكون هناك حزب حاكم .. بل ائتلاف حاكم وحكومة أقليات وانتخابات ديمقراطية وصراع بين متنافسين مستأنثين ورئيس طرطور أيا كان اسمه أو لونه أو حجم أنفه
كانت الخطة تعتمد على ثلاث ثوابت متصورة :
- استسلام سريع للإخوان ومشاركة محدودة في الديكور الديمقراطي بعد حملة تستدعي مخاوف سيناريو الجزائر
- احتراق أي رصيد للثورة أو للإسلامين في الشارع بعد ثبوت مخاطر محاولة الخروج على دولة العسكر مستقبلا
- شهادة دولية بقبول أي مستوى من الديمقراطية يقدمه العسكر بعد ثبوت مخاطر العبث مع البدائل
هل حدث ؟
لا ... لم يحدث
فشل الإنقلاب ..
وهنا سينتفض هذا القارئ الذي أعرفه قائلا : ( تاااني هاتقول الإنقلاب يترنح ) ؟!!
وسأجيب أنا قائلا : استكمل قراءة الفقرة القادمة وبعدها يمكنك أن توجه لي أي قدر من هجوم وربما أكثر
فاجأ الإخوان وتحالف الشرعية العسكر والغرب برفض معادلة شبح الجزائر وعروض الإستسلام والمشاركة ليس هذا فحسب ..
فقد قدم الإخوان آداء ثوري راديكالي فدائي مغامر غير متوقع وخارج الحسابات كلما زاد سقف عنف العسكر زاد سقف تصعيد الإخوان ..
أقول هنا أن كل مجزرة ارتكبها العسكر بدءا بالحرس الجمهوري كان يراهن فيها على استسلام أنصار الشرعية ونجاح معادلة الإنقلاب كما خطط لها .
خبرات العسكر مع الإخوان كانت تعتمد على مسلمتين :
الأولى أن جماعة الإخوان منهجها منذ 54 يعتمد أن تتجنب المعارك الصفرية
الثانية أنك إذا أعطيت الإخوان أي معادلة فيها كلمتي مشاركة واستقرار فهي مقبوله
فوجئ العسكر فعليا بأن القاعدتين السابقتين لا يعملان .. أو قل على الأقل لم تعد البيئة صالحة لعملهما
هذا الصمود والإندفاع الأسطوري رتب نتائج وأحدث آثار كارثية على معادلة الإنقلاب
في أقل من سبعة أشهر من الصمود احترقت وسقطت كل النخبة المدنية التي قدمها العسكر لتكون غطاء لحكمه في السنوات القادمه
كم المجازر والدماء والجنون والجموح والإبتزال والعار الذي خاض فيه العسكر أمام صمود أنصار الشرعية أدى لنتائج لا يمكن علاجها ..
جزء من النخب المدنية للإنقلاب انسحبت خوفا من التورط في جرائم قد يكونون هم وحدهم من يدفع ثمنها إذا جاءت لحظة التضحية
جزء آخر لم يستطع تحمل مخاطر مرحلة تثبيت الانقلاب فصمت وانسحب حتى ينقشع غبار المعركة
جزء آخر قدم كل ما لديه في محرقة قمع الإخوان وغاص بأطرافه الأربعة في الدم وبالغ في تنزيه وتقديس وتأليه العسكر لدرجة انه فقد فاعليته كغطاء للحكم العسكري وأصبح مجرد حذاء ... والحذاء لا يصلح ليكون غطاء
الأمر الهام هنا أن بعد كل هذه الجرائم وفي ظل الملاحقة الجنائية والسمعة الدولية والمخاطر الوجودية لم يعد بإمكان العسكر الوثوق بوجود اي مستوى من مشاركة للمدنين أو أي مستوى من الحياة الديمقراطية قد تؤدي لمحاسبة مستقلبية أو لعودة الإخوان وخاصة بعد رصد حالة التحول الشعبي ناحية معسكر الشرعية بعد محرقة رابعة وتوابعها المستمرة
باختصار ..
كانت النتيجه أن العسكر وجدوا أنفسهم مجددا مضطرون للعودة للحكم بشكل مباشر بدون غطاء مدني وأصبح الآن اللعب على المكشوف ..
فالشارع المفوض المؤيد بعد جرعة التخويف الزائدة أصبح مجمع على حكم العسكر المباشر ولا يعترف ولا يقبل بأي غطاء مدني .. فالجميع في الشارع الآن من كل الاطراف مؤيد ومعارض يعلم أن الجيش هو من يحكم ويتحكم ومسئول عن كل حجر وعثر في الشارع
والغالبية الساحقة من الشباب عصب المجتمع ترى الآن العدو جيدا ومنشغله بإعداد المشانق وبناء البدائل
وهذا برأيي أكبر نجاح للثورة
فقد آن أوان حرق دولة العسكر وهدم الصنم الأزلي ...
فاليتحمل السيسي ومجلسه العسكري كل تبعات فشل السنين وليحمل قربته على ظهره ..
وعلينا جميعا أن نشير لذلك الخرق الذي يتسع في القربة ..
ونرفع يدنا جميعا ونحن نشاهد مركب حكم العسكر وهي تغرق للأبد
وحتى يحدث هذا فإن علينا الآتي :
- الإستمرار في تثوير الشارع وفضح حكم العسكر
- الاستمرار في التظاهر للحفاظ على حالة اندفاع العسكر للهاوية
- رفع الراية بثبات ليحتشد خلفها الثوار و المستيقظون الجدد
- بناء النخبة المدنية الجديدة التي ستنتزع القيادة في لحظة تاريخية قريبة بإذن الله
وأخيرا كل فشل اقتصادي أو سياسي وكل دابه تتعثر في العراق وكل هتاف وتظاهرة واحتجاج وإضراب وكل شارع مغلق وحفرة صرف مفتوحة وكل دقيقة بلا كهرباء أو مياه وكل فقير وجائع وكل مظلوم ومقتول ومبطون في مصر الآن هو شرخ في جدار حكم العسكر ..
بلا بديل .. بلا غطاء ..
القصف الآن على الجدار الأخير
ولأول مره منذ 35 عاما .. أرى الجنرال عاريا .
والله المستعان
كتبه
عز الدين دويدار
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق