الإفراج لـ «فرج».. والإعدام لـ «مرسي»!
شريف عبدالغني
في صبانا كنا نؤجر منه الدراجات، النصف ساعة بربع جنيه. كان «فرج» (وهذا اسمه) «شهماً» معنا لأننا أولاد منطقة واحدة في القرية فلم يعاملنا مثل باقي الأطفال ويجبرنا على أن نترك رهناً عنده حتى يضمن عودة الدراجة، ربما قرب منازلنا منه جعله واثقاً أن الدراجة ستعود إليه بعكس أولاد المناطق البعيدة، حيث كان يصر على أن يخلعوا الأحذية و «الشباشب» قبل ركوب الدراجة حتى يضمن رجوعهم.
بجانب هذه المهنة كان وأسرته يصنعون «مناخل» الدقيق التي تجدها دائماً معلقة في مسامير على واجهة منزلهم.
بجانب هذه المهنة كان وأسرته يصنعون «مناخل» الدقيق التي تجدها دائماً معلقة في مسامير على واجهة منزلهم.
كانت جلسته دائمة أمام هذه المنزل معظم النهار، يشاكس هذا ويناكف ذاك.
لكنه لم يكن أبداً يتعرض لأنثى أو امرأة من المنطقة، بل يحميها لو تعرضت لأي سوء في الطريق.
رغم جدعنته هذه، فقد كان دائماً وأقاربه محل ازدراء ومعاملة فوقية من الناس، كان كثيرون يتجنبون التعامل معه لسبب لا نعرفه، ظننت أن السبب هو انتماؤه لأسرة متواضعة أصلا وفصلا ومالا. وهذا صحيح في جانب، لكن السبب الأكبر أنه كان ليلا يستضيف في منزله زملاءه من مدمني لعب القمار «الميسر»، ويحصل على ما يسمونه «أرضية»، أي مبلغ مالي مقابل استضافتهم.
وغالباً ما كانت سهرتهم تنتهي بمشاجرات بسبب محاولة الخاسرين في اللعب استعادة ما خسروه من الفائزين، فكان الأهالي يستيقظون على أصواتهم.
شيئاً فشيئاً ظهرت النعمة على «فرج» فتجمع حوله عدد ممن يعتبرون أنفسهم «مشايخ»، لكنهم في الحقيقة لا يعرفون شيئاً عن الدين وكل مؤهلاتهم أنهم من «صبيان» رجال بعض الطــرق الذين يقيمون «الموالد» الشعبية للأولياء المنتشرة في مصر. حاصروه بالمطالب: «أنت دلوقتي يا معلم فرج ربنا كرمك.. فلازم تعمل ليلة لأهل الله»، كلامهم يعني أن يقيم مائدة كبيرة يعزم فيها الغلابة ليأكلوا من فضل الله عليه. والغلابة مقصود به أنفسهم فقط، وما يفيض عن المائدة يأخذوه لأسرهم. هو بذكاء فطري يعرف أنهم نصابون ويستخدمون الدين لتحقيق مكاسب دنيوية، ويصفونه بـ «المعلم» في حضوره بينما يلعنونه في غيابه. بل ويدرك أنهم واثقون أن مصدر النعمة التي ظهرت عليه من «حرام»، ورغم هذا لا يتورعون عن أن يأكلوا هذا الحرام، فبيت النية أن يوقعهم في شر أعمالهم.
رحب بدعوتهم ووعدهم بوليمة تتحدث عنها القرية كلها بنت «...............» التي لا تعرف قيمته، وتتجنبه وتتعالى عليه. في اليوم الموعود جمّعوا أنفسهم واتجهوا إلى منزل «المعلم فرج»، ليجدوا ما لم يحلمون به، اللحوم التي يشتهونها أكوام وبشكل لم يصادفونه في أي وليمة حضروها من قبل لأكثر الناس كرما.
شيئاً فشيئاً ظهرت النعمة على «فرج» فتجمع حوله عدد ممن يعتبرون أنفسهم «مشايخ»، لكنهم في الحقيقة لا يعرفون شيئاً عن الدين وكل مؤهلاتهم أنهم من «صبيان» رجال بعض الطــرق الذين يقيمون «الموالد» الشعبية للأولياء المنتشرة في مصر. حاصروه بالمطالب: «أنت دلوقتي يا معلم فرج ربنا كرمك.. فلازم تعمل ليلة لأهل الله»، كلامهم يعني أن يقيم مائدة كبيرة يعزم فيها الغلابة ليأكلوا من فضل الله عليه. والغلابة مقصود به أنفسهم فقط، وما يفيض عن المائدة يأخذوه لأسرهم. هو بذكاء فطري يعرف أنهم نصابون ويستخدمون الدين لتحقيق مكاسب دنيوية، ويصفونه بـ «المعلم» في حضوره بينما يلعنونه في غيابه. بل ويدرك أنهم واثقون أن مصدر النعمة التي ظهرت عليه من «حرام»، ورغم هذا لا يتورعون عن أن يأكلوا هذا الحرام، فبيت النية أن يوقعهم في شر أعمالهم.
رحب بدعوتهم ووعدهم بوليمة تتحدث عنها القرية كلها بنت «...............» التي لا تعرف قيمته، وتتجنبه وتتعالى عليه. في اليوم الموعود جمّعوا أنفسهم واتجهوا إلى منزل «المعلم فرج»، ليجدوا ما لم يحلمون به، اللحوم التي يشتهونها أكوام وبشكل لم يصادفونه في أي وليمة حضروها من قبل لأكثر الناس كرما.
ظلوا يأكلون ويأكلون، هي عادة عند أمثالهم أن يأكلوا أكثر من حاجتهم لشعور داخلي بالجوع الدائم، كونهم نشؤوا في ظروف صعبة.
ظلوا طوال الليلة يدعون لـ «فرج» ومدحوه بشكل يفوق مديح المرحوم «المتنبي» لـ «سيف الدولة». وعند خروجهم من بيته وبطونهم منتفخة باللحم الذي لم يهضموه، راحوا يترجونه أن يكرر هذه الوليمة قريباً.
باغتهم «فرج»: عارفين يا منافقين يا ضلالية يا أولاد «.................» إنتوا كلتوا إيه؟
«طيب ليه الشتيمة يا معلم فرج.. ما الليلة كانت حلوة وعسل». هكذا قال أحدهم ضاحكاً.
«طيب ليه الشتيمة يا معلم فرج.. ما الليلة كانت حلوة وعسل». هكذا قال أحدهم ضاحكاً.
ثم تذكر كبيرهم لهجة «فرج» غير المطمئنة، وسأله: «إيه..أكلنا إيه»؟
ألقى صاحب الوليمة بالقنبلة: لحم حمير يا أولاد «.........»!
تركهم يتقيؤون ما في بطونهم، وهم يلعنونه في كل كتاب ودين، وراح يجمع بواقي «الحمار» الذي سرقه ليرضي به نفوسهم الأمــارة بالسوء.
انتشرت الحكاية في القرية، ورغم وضاعة ما فعل، فإن البعض فرحوا في هؤلاء «المفاجيع» الذين يتحدثون بالدين، والدين منهم براء.
من نوادره، أن ابنته جاءته باكية، ولما أخبرته أن شاباً عاكسها حينما كانت تشتري حاجيات من محل بقالة، جن جنونه وذهب إلى المحل وقطع ملابسه، وأخرج منها «سكينا» وهو يصرخ زاعقاً: «أنا عاوز أعرف ابن......... مين إلى اتجرأ وعاكس البرنسيسة بنت فرج؟! ثم راح يشوح بـ «السكين» يميناً ويساراً، ويقسم «والله يا بلد لأعرفك مقامك، ولازم أرتكب جناية قتل النهاردة».
ألقى صاحب الوليمة بالقنبلة: لحم حمير يا أولاد «.........»!
تركهم يتقيؤون ما في بطونهم، وهم يلعنونه في كل كتاب ودين، وراح يجمع بواقي «الحمار» الذي سرقه ليرضي به نفوسهم الأمــارة بالسوء.
انتشرت الحكاية في القرية، ورغم وضاعة ما فعل، فإن البعض فرحوا في هؤلاء «المفاجيع» الذين يتحدثون بالدين، والدين منهم براء.
من نوادره، أن ابنته جاءته باكية، ولما أخبرته أن شاباً عاكسها حينما كانت تشتري حاجيات من محل بقالة، جن جنونه وذهب إلى المحل وقطع ملابسه، وأخرج منها «سكينا» وهو يصرخ زاعقاً: «أنا عاوز أعرف ابن......... مين إلى اتجرأ وعاكس البرنسيسة بنت فرج؟! ثم راح يشوح بـ «السكين» يميناً ويساراً، ويقسم «والله يا بلد لأعرفك مقامك، ولازم أرتكب جناية قتل النهاردة».
بينما الجميع يحاول معه: «يهديك.. يرضيك يا معلم فرج «، وهو أبداً مصمم على موقفه أن يعرف ابن «............» الذي تجرأ وعاكس ابنته البرنسيسة.
لم يسكت إلا بعد أن أتوا بالمذكور ليبوس رأسه ويبدي ندمه على فعلته.
وهنا عاد «فرج» إلى هدوئه وارتدى ثوب المصلح الاجتماعي، وقال: «ترضى يا بن.......... حد يعمل كده في اختك»؟!
زادت النعمة على «فرج»، وتبين أنه يقود تشكيلا عصابياً لسرقة «الحلي الذهبية» من النساء يركب وصحبته «الموتوسيكلات» ويذهبون إلى المدن القريبة، يباغت الواحد منهم المرأة الهدف ويخطف «السلسلة» من رقبتها أو الحقيبة من يدها ويفر هارباً بالدراجة النارية. ثم يأتون ويبيعون الحصيلة إلى عدد من «صاغة» القرية، كانوا يعرفون أنه ذهب مسروق فيشترونه بثمن بخس.
زادت النعمة على «فرج»، وتبين أنه يقود تشكيلا عصابياً لسرقة «الحلي الذهبية» من النساء يركب وصحبته «الموتوسيكلات» ويذهبون إلى المدن القريبة، يباغت الواحد منهم المرأة الهدف ويخطف «السلسلة» من رقبتها أو الحقيبة من يدها ويفر هارباً بالدراجة النارية. ثم يأتون ويبيعون الحصيلة إلى عدد من «صاغة» القرية، كانوا يعرفون أنه ذهب مسروق فيشترونه بثمن بخس.
أما قمة ازدواجيتهم فظهرت عندما وجد الناس «فرج» يلقي بمنديل به أشياء معدنية في مصرف القرية المليء بمياه «المجاري».
سألوه عنها فأخبرهم أنها «صُـلبان» وجدها في بعض السلاسل التي سرقها من منطقة «شبرا» التي تقطنها نسبة كبيرة مسيحية، ورفض «الصاغة» شراءها بدعوى أنها «حرام»، فجاء يلقي بها في المصرف حتى لا يحمل هو ذنبها!!
كان «فرج» لا يخجل من الاعتراف بالسرقة أمام الناس لكنه يقسم أمامهم: «تتقطع إيدي ولا تتمد على سلسلة واحدة من بلدي، أنا عارف الأصول». وبالفعل لم يكن يسرق شيئاً من القرية.
توسع «فرج» في سرقاته، وشملت المواشي والدراجات النارية والسيارات وغيرها، فكان مصيره السجن.
كان «فرج» لا يخجل من الاعتراف بالسرقة أمام الناس لكنه يقسم أمامهم: «تتقطع إيدي ولا تتمد على سلسلة واحدة من بلدي، أنا عارف الأصول». وبالفعل لم يكن يسرق شيئاً من القرية.
توسع «فرج» في سرقاته، وشملت المواشي والدراجات النارية والسيارات وغيرها، فكان مصيره السجن.
السجون في مصر يخرج منها البريء مجرماً والمجرم سفاحاً. اعتقلوه ذات مرة بتهمة الاشتراك في جريمة قتل رجل فى قرية مجاورة، وكان بريئاً. علقوه في سقف الحجرة، ومن شدة التعذيب وبعدما وجد أنه ضائع في كل الأحوال، قال للضابط: «خلاص يا ظابط يا ابن............. أنا اللي قتلت بس نزلني من السقف يا ابن..............»!!
قضى سنوات خلف القضبان. وخرج بأجندة معتبرة من معارف عتاة المجرمين. توسع نشاطه.
قضى سنوات خلف القضبان. وخرج بأجندة معتبرة من معارف عتاة المجرمين. توسع نشاطه.
وبعد قيام ثورة 25 يناير استغل الانفلات الأمني في الدولة، وشارك مع زملائه في سرقة «ماركت ضخم» على الطريق الزراعي المؤدي للقاهرة. كان يبيع الأجهزة الكهربائية المسروقة بربع ثمنها، ووضع تسعيرة لأجهزة الكمبيوتر القديمة أعلى من «اللاتوب» لأن الأخير حجمه أصغر فظن أنه الأرخص، فبيعت كل حصيلة هذا الأجهزة وهو يستغرب السر.
ولما وجد الطلب زاد عليها، ذهب إلى ماركت آخر وعاد بحصيلة كبيرة من المسروقات، وفي طريق عودته أوقفه أهالي قرية مجاورة، وأوسعوه ضرباً وأعادوا المسروقات للماركت.
كان ينزف في الطريق فنقله أولاد الحلال للمستشفى، وسأله الطبيب عن سر الإصابة، فكانت المفاجأة: «أنا كنت في مظاهرة يا باشا في الثورة ضد مبارك، والشرطة اللي عملت فيا كده».
اهتم الطبيب بالبطل الثوري، وعالجه على أحسن ما يكون.
لما رجع للمنزل فكر في طريقة لاستعادة كبريائه الضائع ممن ضربوه، فبدأ أولا بزوجته وهي من نفس قرية المعتدين عليه. حلق شعرها وطلقها. ثم جمع أصحابه وقاموا بحملات إغارة على القرية وحرق عدة منازل ومزارع.
ولأن غرور القوة استبد به، جاءت نهايته. فقد أراد أن يكون «كبير المنطقة» فصنع كميناً أمام منزله، يسمح بمرور من يحب ولا يسمح بخطوة واحدة لمن كانوا يحتقرونه. هنا تجمع عدد كبير من الأهالي وحرقوا منزله. هرب إلى خارج القرية، وكان يرسل كل يوم تحذيرات بالانتقام. استغل باعة المياه المعدنية الفرصة وأشاعوا أن «فرج» سمم محطة المياه، فامتنع الناس عن صنابير المنزل، ولجؤوا إليهم فزادت مبيعاتهم وأرباحهم.
في فترة حكم المجلس العسكري القي القبض عليه وانتهت أسطورته وذهب إلى غياهب النسيان، لكن لم يقبض أحد على «حيتان» مصر الحقيقيين، وظلوا في أماكنهم يمصون خيرات البلد، وينشرون الخراب والفوضى خلال السنة التي حكمها محمد مرسي، حتى عادوا مجدداً للسلطة، والآن يحاكمون مرسي.
أتوقع أن يخرج «فرج» من سجنه قريباً معززاً مكرماً وتعيينه في منصب يليق به. فمصر الجديدة لا تسجن حرامي مواشي. مصر تسجن الأشراف وأساتذة الجامعات ونخبة المجتمع. الآن أسمع صوت «فرج» قادماً من خلف الأسوار: ابن........مين اللي سايبني محبوس لغاية دلوقتي!!
لما رجع للمنزل فكر في طريقة لاستعادة كبريائه الضائع ممن ضربوه، فبدأ أولا بزوجته وهي من نفس قرية المعتدين عليه. حلق شعرها وطلقها. ثم جمع أصحابه وقاموا بحملات إغارة على القرية وحرق عدة منازل ومزارع.
ولأن غرور القوة استبد به، جاءت نهايته. فقد أراد أن يكون «كبير المنطقة» فصنع كميناً أمام منزله، يسمح بمرور من يحب ولا يسمح بخطوة واحدة لمن كانوا يحتقرونه. هنا تجمع عدد كبير من الأهالي وحرقوا منزله. هرب إلى خارج القرية، وكان يرسل كل يوم تحذيرات بالانتقام. استغل باعة المياه المعدنية الفرصة وأشاعوا أن «فرج» سمم محطة المياه، فامتنع الناس عن صنابير المنزل، ولجؤوا إليهم فزادت مبيعاتهم وأرباحهم.
في فترة حكم المجلس العسكري القي القبض عليه وانتهت أسطورته وذهب إلى غياهب النسيان، لكن لم يقبض أحد على «حيتان» مصر الحقيقيين، وظلوا في أماكنهم يمصون خيرات البلد، وينشرون الخراب والفوضى خلال السنة التي حكمها محمد مرسي، حتى عادوا مجدداً للسلطة، والآن يحاكمون مرسي.
أتوقع أن يخرج «فرج» من سجنه قريباً معززاً مكرماً وتعيينه في منصب يليق به. فمصر الجديدة لا تسجن حرامي مواشي. مصر تسجن الأشراف وأساتذة الجامعات ونخبة المجتمع. الآن أسمع صوت «فرج» قادماً من خلف الأسوار: ابن........مين اللي سايبني محبوس لغاية دلوقتي!!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق