من حقوقنا المهدورة
أعلنت الحكومة الإسبانية أنها بصدد تصحيح خطأ تاريخي بإقرار مشروع قانون يرمي إلى تجنيس أحفاد اليهود الشرقيين (سفارديم) الذين تم طردهم من إسبانيا قبل أكثر من خمسمائة عام، جاء ذلك على لسان وزير العدل البرتو رويز جالاردون أثناء لقائه في مدريد مع ممثلين عن بعض الجمعيات اليهودية الأمريكية الذين حدثوه في الموضوع، مشجعين الحكومة الإسبانية على أن «تكمل جميلها» بعدما اعتذرت لليهود عن الطرد الذي تعرضوا له في عام 1492م حين صدر أمر ملكي بطرد كل من يرفض اعتناق الكاثوليكية، وفي خطوة تالية سمحت الحكومة الإسبانية لكل يهودي شرقي يثبت أن أجداده كانوا مقيمين في إسبانيا قبل ترحيلهم عنها بأن يتقدم للحصول على جنسيتها.
لكنها اشترطت في هذه الحالة أن يتنازل عن الجنسية الأخرى التي يحملها.
وقد حرص ممثلو الجمعيات اليهودية الأمريكية على الإعراب عن حفاوتهم وتقديرهم لإقدام الحكومة على إلغاء ذلك الشرط الذي حذف من مشروع القانون الجديد المعروض على البرلمان.
ليس معروفا عدد اليهود الشرقيين الذين سوف يستفيدون من القانون المقترح، إلا أن ثمة تقديرات تتحدث عن أن عددهم نحو ثلاثة ملايين يهودي، في حين أن الحكومة الإسبانية قدرت عدد الذين لا يزالون يتحدثون باللهجة اليهودية الإسبانية المسماة «لادينو» بنحو 250 ألف شخص فقط.
استوقفني الخبر الذي وقعت عليه في بداية الأسبوع الحالى، واستلفت نظري فيه ذلك الجهد الذي تلح عليه الجمعيات اليهودية الأمريكية للدفاع عن أولئك الذين تعرضوا للاضطهاد قبل خمسة قرون.
وما همني فيه أنه يعيد إلى أذهاننا ما حل بالمسلمين في تلك الفترة، لأن القرار الملكي لم يستهدف اليهود أساسا، ولكن أريد به إنهاء وجود المسلمين الذين فتحوا الأندلس وحكموها طوال ثمانية قرون تقريبا.
خلالها تزاوجوا وتناسلوا ودخل في الإسلام خلق كثير، فضلا عن أنهم أقاموا دولة ناهضة ونموذجا حضاريا رفيعا لا تزال شواهده باقية إلى الآن، خصوصا على الصعيدين الثقافي والعمراني، المسلمون هم الذين كانوا يحكمون «الأندلس» وهم الذين هُزِموا أمام جيوش الكاثوليك بقيادة الملك الفونسو وزوجته ايزابيللا.
لذلك عمدت الكنيسة الكاثوليكية إلى استئصالهم من البلاد وإزالة كل أثر لهم، الأمر الذي عرضهم لصور مختلفة من الاقتلاع والإبادة تشكل جرائم تاريخية كبرى لا تزال حاضرة إلى الآن في كتابات الباحثين الإسبان والعرب (أحدث ما كتب عنها في مصر كان رواية الدكتورة رضوى عاشور ثلاثية غرناطة).
ما تعرض له المسلمون كان أضعاف ما حل باليهود، الذين كان حظهم التهجير والطرد، فلم يجدوا مأوى لهم إلا في رحاب الدولة العثمانية، حيث اتجهت أعداد منهم إلى تركيا بينما اختار آخرون أن يستوطنوا المغرب وتونس، أما المسلمون فإن اقتلاعهم استغرق أكثر من مائة عام ومر بمراحل عدة، بدأت بمحاولة تنصيرهم وإجبارهم على تغيير أسمائهم وتحويل كل مساجدهم إلى كنائس ومصادرة أوقافهم، ولما فشلت العملية تقرر تخيير المسلمين بين التنصير أو التهجير أو القتل.
فهاجرت أعداد منهم إلى بلاد المغرب ولا يزال أحفاد بعضهم يحتفظون حتى الآن بمفاتيح بيوتهم ــ على غرار الفلسطينيين ــ وهؤلاء تعرضوا لأهوال كثيرة في محاولتهم الهجرة.
إلا أن العذاب الأكبر كان من نصيب من قرروا البقاء والتفوا على قرارات الكنيسة بأن أظهروا تنصرهم في العلن في حين ظلوا متمسكين بدينهم في السر.
وقد وصفهم الإسبان بالموريسكيين، حيث كان يطلق على المسلمين العرب بأنهم «المور» (موريتانيا مشتقة من الاسم وكذلك موروكو ــ المغرب ــ وجزيرة موريشيوس وجبهة تحرير مورو وهم المقاومون المسلمون في جنوب الفلبين التي فتحها الإسبان وأطلقوا الاسم على منطقة تجمع المسلمين هناك)
ــ الموريسيكون هؤلاء تعرضوا للمراقبة والملاحقة والتعذيب الذي يشكل صفحة سوداء في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية، وهي التي أنشأت لأجل اقتلاعهم محاكم التفتيش التي راقبت سلوكياتهم وتقاليدهم وأطعمتهم وختانهم، ونصبت المحاكم والمشانق ومنصات التعذيب لكل من ثبت عليه منهم انه لا يزال على دين الإسلام.
فأفلت منهم من أفلت، واحتمل العذاب من احتمل، واضطر إلى الهجرة من ضاقت بهم سبل الحياة وعجزوا عن البقاء في ظل أجواء الرعب المخيمة.
ما يهمني في الأمر أن ما أصاب اليهود بعد سقوط ممالك المسلمين في الأندلس لم يتجاوز حدود التهجير القسري، أما ما حل بالمسلمين الذين قدر عددهم بمليون شخص فقد كان أفظع من ذلك بكثير، وما أشرت إليه مما أصابهم بمثابة إيجاز مخل ومبتسر يسجل عنوان الصورة دون تفاصيلها وبشاعاتها.
مع ذلك فقد اعتذرت الحكومة الإسبانية لليهود ولم تعتذر للمسلمين. وسمحت لأحفاد اليهود بالعودة واكتساب الجنسية ولم يتحقق ذلك بالنسبة للمسلمين.
علما بأن أحفاد المهجرين إلى المغرب من مسلمي الأندلس (الموريسيكيون) يقدر عددهم الآن بنحو أربعة ملايين شخص، وهؤلاء لا يزالون واعين بأصولهم وقد عقدوا في عام 2002 مؤتمرا طالبوا فيه بحقوقهم ومساواتهم بما اتخذته حكومة مدريد من إجراءات تخص اليهود.
المفارقة مسكونة بملامح العبث المفرط، فاليهود الذين تقف وراءهم دولة تضم 9 ملايين نسمة، (مليونان منهم عرب) أخذوا حقوقهم.
والمسلمون الذين تقف وراءهم أمة ضمت نحو مليار ونصف مليار نسمة يتوزعون على 57 دولة، لم يستردوا شيئا من حقوق إخوانهم، واليهود المطرودون من إسبانيا منذ خمسة قرون اكتسبوا حق العودة إليها، في حين أنهم قبلوا بطرد الفلسطينيين من بلدهم ويستكثرون عليهم أن يطالبوا بحقهم في العودة، إنها الهمة وموازين القوة التي تهدر الحق والمنطق والأخلاق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق