رمال مصر المتحركة
" سيعلن عن ترشحه غدا في مؤتمر صحفي عالمي " ، " سيعلن عن ترشحه عقب الإعلان عن نتيجة الاستفتاء " ، " المجلس العسكري يفوض وزير الدفاع في الترشح لرئاسة البلاد " ، " شفيق وموافي يعلنان عن عدم خوض سباق الرئاسة ودعمهم للسيسي " ، " صباحي يعلن عن تفكيره عدم المشاركة في الانتخابات " ، " الفريق عنان يؤجل قرار خوض الانتخابات " ، " الفريق الرئاسي للسيسي مكون من خمسين شخصية عالمية في السياسة والاقتصاد " ، " عمرو موسى يقول : السيسي سيعلن ترشحه في أول مارس " . هذه هي عينة بسيطة لما تقصف بها وسائل الإعلام المصرية أدمغة المصريين يوميا لتمهيد العقول لنزول السيسي للانتخابات باعتباره منقذ مصر ، والخيار الأوحد الذي لا عدول عنه .
وفجأة أخذت العناوين في التغير ، والأجواء في التلبد ، وإذا بصباحي يقرر خوض الانتخابات متحديا السيسي بل وطالبا إياه بعدم الترشح ، ومناظرته على الهواء مباشرة في قضايا الوطن ، وإذا بعنان يقرر بدوره الترشح للانتخابات ، وإذا بالتيار الشعبي الموالي لصباحي يستنفر كوادره داخل حركة " تمرد " لرفض فكرة نزول السيسي للانتخابات ، وتنفجر الحركة بصراعات داخلية شديدة منذرة بانهيارها . فما الذي حدث في الأيام الأخيرة دفع الأحداث لنحو هذا التغيير الدرامي في المشهد المصري عقب الانقلاب ؟
من ثوابت العلوم السياسية أن دول العالم الثالث ذات الطابع الاستبدادي في نظام الحكم لا تبالي بالخيارات الشعبية في لعبة الانتخابات ، فثقافة شعوب تلك الدول ثقافة رعوية ضيقة لا تهتم بالعمل السياسي ، وتراه عملا عبثيا في ظل حكم الرئيس الإله الذي لا يسأل عما يفعل . فالنظام يفرض إرادته وعلى الشعوب الإذعان ، و للمعارضة التنكيل والإيلام . لذلك فحسابات الرئاسة في هذه الأنظمة في أغلبها ترتبط بالمتطلبات الدولية والإقليمية ، وتخضع لمعايير الأنساق والتحالفات القائمة . ومصر ليست استثناء من هذه القاعدة إلا في الفترة الممتدة من تنحي مبارك حتى الانقلاب العسكري في 3 يوليو . لذلك كان شاهر السيف الأحمر الحالم بالرئاسة منذ 35 سنة حريصا منذ البداية على الحصول على الدعم الأمريكي بوصفه الدعم الأهم إلا لم يكن الوحيد الذي يؤهل صاحبه لكرسي الرئاسة في مصر بعد الانقلاب .
لاشك أن أمريكا في غاية السعادة لزوال حكم الإخوان وإفشال تجربتهم البكر في الحكم ، وهي كانت تنسق على أعلى المستويات مع قيادات المجلس العسكري على هذه الخطوة ، كما ذكر ذلك صراحة قائد الانقلاب في حواره مع النيويورك تايمز في شهر يوليو الماضي . ولكن عند الترتيب لمشهد 3 يوليو كانت الأدوار مرسومة بدقة ، مع التنبيه على ضرورة الالتزام بالمتفق عليه ، وهو ما لم يحدث من الطرف المصري ، فعلى الرغم من التأكيدات المستمرة بأن الجيش لن يطالب بمناصب سياسية ، إلا إن أحلام السيسي ظلت تطارده ، وأشواقه في الرئاسة غدت أكبر من الكتمان ، بعد أن سكر بخمر المادحين ، وآهات المعجبين ، وإطراء المأجورين ، وهذا ما لم يرق للأمريكان الذين كانوا يخططون لئن تلعب المؤسسة العسكرية دور حامي النظام العلماني من التهديد الإسلامي ، على غرار التجربة التركية في مرحلة ما قبل أردوجان ، أما مسألة الحكم العسكري المباشر فقد أبدت أمريكا تحفظا كبيرا عليه . وأكبر مخاوفها يتمثل في تحول قطاع كبير من رافضي الانقلاب العسكري في مصر وأغلبهم من التيارات الإسلامية نحو حمل السلاح وانتهاج سبيل القوة في تصديهم لهذا الانقلاب ، خاصة بسبب القمع الأمني الوحشي لمعارضي الانقلاب . ومن ثم أخذت ترسل برسائل متضاربة للسيسي لتزيد قرار ترشحه إرباكا ، تارة بالتأييد والإقرار ، وتارة بالتذمر والاعتراض ، وهذا الأمر جعل السيسي يؤجل قرار ترشحه حتى ينال الموافقة الأمريكية بصورة صريحة وواضحة .
عشرة أيام ملتهبة وحافلة بالأحداث بدأت من يوم 4 فبراير عندما اجتمع وزير الخارجية الأمريكي " كيري " مع العاهل السعودي من أجل التباحث عن مستقبل مصر ، مستبقا بذلك زيارة الوفد المصري والتي أعلن عنها قبل ذلك بأيام ، وقد ظهر التباين في الموقف السعودي والأمريكي بحسب التقرير الذي أوردته صحيفة " بلومبيرج " ، فالطرفان قد اتفقا على دعم مصر في المرحلة القادمة ، واختلفا حول ترشح السيسي للرئاسة ،وبعد أسبوع من الاجتماع، عقد كيري محادثات في أبوظبي، وقال إن الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة قد وافقت على "جهود مشتركة محددة" لدعم الاقتصاد المصري ، ولكن ثارت نفس المشكلة حول ترشح السيسي للرئاسة .
في اليوم التالي مباشرة لزيارة كيري للسعودية أي في 5 فبراير أوفدت مصر وفدا رفيع المستوى برئاسة رئيس الوزراء الببلاوي في زيارة ظاهرها التعاون الاقتصادي وباطنها جس النبض عقب زيارة كيري ، واستمرت الزيارة عدة أيام حصلت خلالها مصر على دعم مادي بعدة مليارات ، ولكن في نفس الوقت لم تحصل على الدعم المنتظر في رئاسة السيسي ، وعقب عودة الببلاوي مباشرة أوفد السيسي رئيس أركانه صدقي صبحي في زيارة خاطفة للإمارات ، استبق بها هذه المرة زيارة " كيري " إلى الامارات ، وعاد سريعا بعد 48 ساعة بمثل ما عاد به الببلاوي . وهنا قرر السيسي المضي قدما في مواجهة الحراك الأمريكي المضاد ، فقام بالتوجه إلى روسيا في زيارة مفاجئة لم يعلن عنها من قبل ، بهدف عقد صفقة سلاح بعدة مليارات ، باحثا عن جبهة دعم جديدة ، وورقة ضغط يلاعب بها الأمريكان ، إلا وهي ورقة واردات السلاح .
زيارة " كيري " إلى السعودية والإمارات أكبر داعمي الانقلاب العسكري في مصر جاءت عقب جلسة استماع داخل الكونجرس الأمريكي كانت مخصصة لبحث الوضع الأمني في مصر في ظل استمرار الحراك الثوري المعارض ضد سلطة الانقلاب ، ومدى تهديد التدهور الأمني في مصر على الأمن القومي الأمريكي ، وأمن الكيان الصهيوني الغاصب ، شارك في المناقشات عدد كبير من خبراء محاربة الإرهاب، وخبراء العلاقات الدولية ومنها العلاقات بين مصر وأمريكا، كما شارك فيها خبراء صهاينة ، وقد خلصت المناقشات أن الأوضاع الأمنية في مصر شديدة الخطورة على أمن الصهاينة ، وأنها مرشحة بقوة للتفاقم والازدياد بسبب القمع الأمني المفرط مع الحراك الرافض للانقلاب . وأنه لابد من إيجاد مخرج من هذه الأزمة بالطرق الدبلوماسية والسياسية ، وليس بالطرق الأمنية فقط ، وأن على أمريكا الضغط على مصر من أجل الحيلولة دون مزيد من التدهور .
أوروبا أيضا تعتريها نفس المخاوف الأمريكية ، فهي أقرب لجبهة التوترات ، وفرص تضررها أكبر ، لذلك فهي تبحث وتفكر بدورها في قضية الرئاسة المصرية ، فقد نشر الباحثان "أنتوني دوركين" و"هيلين ميشو" في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية تقريرا عن الأوضاع المصرية جاء في ثناياه : " فإن المال لن يكون كافيا لتحقيق الاستقرار في مصر، فالحملة الأمنية التي تدعمها السعودية على الإخوان المسلمين، والذي فازوا في كل الانتخابات منذ سقوط مبارك، تُشكل عقبة أمام التوصل إلى حل ، ولا يمكن أن تحل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية في مصر دون تسوية سياسية تتمتع بقبول واسع النطاق" . كما كتب وقال بول سوليفان، المتخصص في شؤون الشرق الأوسط في جامعة جورج تاون تقريرا مماثلا ، جاء فيه : "إن المسح (الاستطلاع) الذي أُجري في سبتمبر الماضي كشف عن تقارب في الدعم لمرسي والسيسي، وهذا ما يسلط الضوء على المخاطر التي يُقدم عليها الحلفاء في الخليج برهانهم على مصر العسكر " .
رمال مصر آخذة في التحرك بشدة هذه الأيام ، وما ظنه الكثيرون بأنه أمر حتمي مقضي لا محالة قد أصبح اليوم محل شك ، فالسيسي يعلم جيدا أن المعارضة الأمريكية لتوليه الرئاسة تضعه في موقف بالغ الصعوبة ، فهو يعلم قدر النفوذ الأمريكي في الخليج والمنطقة بأسرها ، وبمصر نفسها ، وقد رآها رأي العين وهي تضحي بأوثق حلفائها تباعا في المنطقة ، حتى أن خبر تنحي مبارك قد أذيع في أمريكا يوم 10 فبراير أي قبل التنحي بيوم ،وأن نفوذها وعلاقاتها بالغة التغلغل في كافة المؤسسات السيادية في المنطقة . السيسي رأي أمريكا وهي تطيح بكل من يعارضها ويحاول التصدي لسياساتها في المنطقة، لذلك فهو لن يقدم على الترشح إلا بعد الحصول على الدعم الواضح والصريح .
هذه التداعيات السريعة تؤكد على أن أوراق السيسي آخذة في الاصفرار ، و شمس طالعه وطموحاته آخذة في الغروب ، فلو تولى الرئاسة دون الدعم الأمريكي فلن يمكث في المنصب طويلا ، فقط بمجرد إغلاق صنابير الدعم الخليجي سينهار كل شيء. ولو بقي في منصبه كوزير للدفاع فسوف يصطدم لا محالة بالرئيس القادم مهما كانت خلفيته أو ضعفه ، وبل وربما يكن أول قراراته الإطاحة به ، لأنه لا يمكن لبلد أن يستقيم برأسين وحاكمين ورئيسيين بنفس الصلاحيات والنفوذ . غير أن الحقيقة الوحيدة الثابتة في هذه الأوضاع الملتهبة والمتأججة ؛ أن مصر قد ودعت الاستقرار وعلى ما يبدو لفترة طويلة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق