إنسان العصر الحديث يتحدث إليكم..
من محذوفات "الفردوس المستعار والفردوس المستعاد"
د.احمد خيري العمري
أنا إنسان العصر الحديث. أنا إنسان عصر المتغيرات.. أنا إنسان بلا ثوابت.. بلا ثوابت عليها.. بلا ثوابت شببت عليها.. وبلا ثوابت أربي عليها اولادي.. كل شيء يتغير.. وكل شيء نسبي.. وكل شيء يبدو اليوم حقيقي وأصيل، سيكون غير ذلك في وقت آخر..
أنا إنسان اللاحلال واللاحرام – بل إنسان الاباحة المطلقة.. إنسان بلا تابو.. ولا شجرة محرمة في جنة الاستهلاك والوفرة..
لكن منذ ان دخلت في ذلك ، وأنا اشعر ان عقدي قد انفرط، وإني لست أكثر من حبات زئبق تدحرجت على ارض ملساء.. وظلت تتشظى وتتشطر .. وتتباعد عن بعضها البعض..
نعم.. منذ ان فقدت الثوابت.. وأنا اشعر أني فقدت عمودي الفقري.. فقدت الوعاء الذي يحتويني.. وصرت أتناثر هنا وهناك بدعوى أنني حر..
لكني أشعر إن الأمر ليس هكذا.. وأن هذهِ الثوابت أكثر عمقاً من أن تلغى.. بل إني اشعر إن لها جذوراً في داخلي، وإن ما اجتث لم يكن سوى سيقانها.. وإنها تنبت من جديد من أعماق أعماقي..
نعم. إني احتاج إليه، مالك يوم الدين، ليضمني ، ويحتويني، ويلملم شتاتي.
* * *
أنا إنسان العصر الحديث.. أنا النخبة الناجحة.. أنا من تطمعون إلى أن تصلوا إلى ما وصلت أنا إليه.. أنا كل السعادة التي ترغبون بها. أخوض فيها وارتع ليل نهار..
تعرفون الفردوس الذي تصبون اليه ؟..
أنا أسكنه .. هو عنواني الدائم. هو مقر اقامتي الدائمة..
نعم.. وأنا سعيد لأنكم تحسدونني.. سعيد بسعادتي.. سعيد بالأصفار الستة في حسابي البنكي.. سعيد ببيتي الضخم.. وبالبيت الصيفي حيث أقضي إجازات نهاية الاسبوع.. سعيد بإجازتي الطويلة في ذاك المنتجع في الكاريبي، حيث الليلة الواحدة في ذلك الفندق الفخم تكلف بقدر كلفة اجازاتكم الرخيصة كلها..
وأنا سعيد بعائلتي.. سعيد بزوجتي الحسناء التي – لو مرت أمامكم ، لأدارت رؤوسكم.. وسعيد إنها تنفق ثروة طائلة من أجل أن تحافظ على جمالها، سعيد بأولادي اللامعين، وبقدرتي على تأمين افضل الجامعات لهم ليدرسوا فيها. وشراء أعلى الشهادات ليكونوا سعداء هم ايضاً..
نعــم. إنني سعيد جداً.. سعيد لقدرتي على اثارة غيظكم وحسدكم.. سعيد لأني في – مكان- أنتم مستعدون لدفع كل شيء من أجل الوصول اليه..
نعم.. إنني سعيد جداً.. وتستطيعون أن تروا ذلك على وجهي أن لم تصدقوا .. انظروا الــي.. أترون كم أنــا سعيــد..
* * *
لكن شيئاً ما، يهمس في أذني، ويقول إن تكراري وتشديدي على إني سعيد يعكس شكاً داخلياً في أعماقي بهذهِ السعادة ، إنه ينطوي على قدر من الإنكار لها. كما لو إني غير مقتنع واظل اكرر ذلك لأقنع نفسي قبل أن أقنعكم.. شيء ما يهمس ليقول لي إن الناس السعداء لا يقولون ذلك طوال الوقت..
لكن ذلك يحيرني شخصياً.. ما الذي أريده حقاً ؟.. المزيد من المال ؟.. أنني احصل عليه.. حتى لم أعد اعرف ما أفعل به.. المزيد من كل شيء عندي ؟.. لم أعد أرغب في شيء .. لم أعد أرغب في أي شيء مما تعودت أن أرغب به ببساطة : لقد اتخمت.. ولا اعرف حقاً ما أريد..
* * *
.. لكني أعرف أنني كلما ازددت نجاحاً، وكلما صعدت أكثر إلى القمة، كلما قل الاوكسجين في رئتي، والدم في شراييني.. وكلما زاد ضيق تنفسي..
وأعرف أني على قمة العالم حيث أقف، أشعر بالبرد وبانعدام الامان..
نعم.. على تلك القمة الباردة حيث أقف، لا افكر بمكاني غير انه "هاويــة" أو مكان ملائم للانتحار..
* * *
لا.. لست سعيداً..
وتستطيعون أن تروا ذلك على وجهي .. ابتسامتي ليست أكثر من تقلص في عضلات الوجه.. و وجهي المشدود ليس سوى قناع يخفي تجاعيدي وانسداد شراييني..
لا. لست سعيداً.. لكني أحاول أن أبدو كذلك لتستمروا في غيظكم وأنتم تتأملوني بحسد..
تلك هي السعادة الوحيدة التي أعرفها.. والتي أحرص على الحصول عليها..
* * *
.. لكني أعرف ان هناك سعادة أخرى، كيان آخر ومقاييس اخرى..
..وربما اود لو اني كنت افهمها.. وأنتمي لها..
* * *
{ربما يود الذين كفــروا لو كانوا مسلميـــن..} الحجر-2
* * *
ربما يودون لو أنهم كانوا مسلمين –حقــاً- منتمين لذلك الاله –الذي لا اله الا هو،، منتمين لكونه رب العالمين.. الرحمن الرحيم . مالك يوم الدين.. ربما يودون لو أنهم انتموا لمنظومة ذلك الاله العابر لحدود الزمان والمكان، الصالح لاحتوائهم واحتضانهم سواء عاشوا في الاسكيمو او في الصحراء، في الخيمة او في الطابق التسعين في مانهاتن..
ربما يودون لو أنهم كانوا مسلمين –حقــاً- يعرفون ذلك الاله الذي لا اله سواه، ربما يودون لو أن "رب العالميــن" كان هناك في رؤوسهم منذ بداية نشوئهم، ومنذ بداية تكون وعيهم، ربما يودون لو أنه قد دخل في تشكيل مفاهيمهم، ساهم في أن يشعروا بإنسانيتهم، بإدراك معانيها، وآفاقها..
ربما يودون لو أنهم اعترفوا بحقيقة ضعفهم.. ولجأوا "للرحمن الرحيم"، يحيطهم كما يحيط الرحم بالجنين، ويمده بالدفء والحنان، ويمتص الصدمات لكي لا تؤديه او تخدشه. ربما يودون لو أن "مالك يوم الدين" لملم شتاتهم، وأعطاهم بوصلة يحددون فيها موقعهم.. ويمنحهم طوقاً للنجاة.. وقارباً للإنقاذ..
.. نعم.. ربما يودون لو أنهم كانوا مسلمين..
* * *
مسلمين حقاً اعني ..
وليس مثلنا..
* * *
ربما نود – نحن- لو إنا كنا مسلمين، بهذا المعنى..
ربما نود لو هذهِ المفاهيم تغلغت فينا.. قد نشئنا عليها.. قد صارت عمودنا الفقري.. وبوصلتنا ودماغنا، وشرياننا الابهر الاكبر..
.. ربما نحن ايضاً نود لو إنا كنا مسلمين..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق