مصر بين أنياب الليبرالية المتطرفة
شريف عبد العزيز"السلعة التي قيمتها جنيه ستباع بجنيه؛ فأنا لا أعرف المجاني" .. بهذه العبارة الصادمة كشف رئيس مصر المنتظر عبد الفتاح السيسي عن أيديولوجيته الاقتصادية وفلسفته السياسية التي يؤمن بها، والتي كشفت عنها تسريباته المتتالية التي ركز فيها على الجانب الاقتصادي بصورة استرعت الانتباه، فالرجل يتكلم عن سياسات اقتصادية محددة ومعروفة ، ووضع معالمها العامة وخطوطها الرئيسية ، في عدة مناسبات عامة وخاصة .
حتى أصبح من لوازم مجالسه ولقاءاته أن يتحدث عن الجانب الاقتصادي حتى إنه قال في مرة :
"وددت لو أن المطلوب يدفع فاتورة تليفون مثل الطالب تماما" .
هذه الأيديولوجية الاقتصادية معروفة عالميا باسم: "الليبرالية المتطرفة".
فلقد أفرز التراث الفكري الأوروبي والأنجلوساكسوني حول الليبرالية ثلاثة أمور أساسية؛
الأول: يتعلق بالبحث الدائم عن سبل دمقراطة الحياة السياسية لتجدير الديمقراطية الليبرالية، كإطار ضروري للحفاظ على الحرية السياسية ، والسعي لحماية دولة الرفاهية.
والأمر الثاني: الحد من تدخل الدولة في الاقتصاد .
والثالث: تأسيس إيديولوجية ليبرالية . فالليبرالية تم تأسيسها عبر خطوات ومراحل وأشكال ، هذه الأشكال تطورت عبر الزمان من الليبرالية الكلاسيكية إلى الليبرالية المتطرفة أو المتوحشة وهي الأيديولوجية التي يحاول الرئيس المنتظر تمريرها في الشأن المصري العام .
يعتبر ليو شتراوس المفكر الألماني الأصل الأمريكي الجنسية اليهودي الديانة الصهيوني العقيدة هو مؤسس نظرية "الليبرالية المتطرفة" ، وهو الأب الروحي لهذه الأيديولوجية ، والملهم الأساسي لأفكار ميلتون الأمريكي ، وفريديريش النمساوي ، المنظريْن الرئيسيين لهذه الأيديولوجية ، صهيونية شتراوس كان لها أثر واضح على نظرياته وأفكاره ، وكذلك تأثر بالنازية التي عاصر نشأتها وتفوقها وانهيارها ، فقد كان الرجل يعلن بصراحة شديدة كراهيته للديمقراطية والليبرالية على حد سواء.وقد حاول أتباعه كثيرا إخفاء هذه الحقيقة، والحقيقة أن الصورة التي تم رسمها لشتراوس باعتباره وطنيا أمريكيا يعشق الحرية هي صورة ملفقة تماماً، فهي أبعد ما تكون عن الحقيقة، فقد كان يعتقد شتراوس وأنصاره أنهم وحدهم الذين يحتكرون فهم الحقيقة ، كما أنه يؤمن بفلسفة التفوق مما جعله يحتقر الجماهير بما في ذلك النخب العلمية والأكاديمية.
فلسفة الليبرالية المتطرفة هي المدرسة الأكثر تطرفا في تصورها الاقتصادي ، فهي تنادي بتقليص دولة الرعاية الاجتماعية لأدنى مستوياتها ، ومن أهم مبادئها : خصخصة الشركات الحكومية ، وتحرير الاقتصاد من أي قيود تحد من حركته ، كما أنها ترفض تماما فكرة التخطيط بدعوى أنه نوع من الوصاية والاستبداد ، كما لا تعير هذه الفلسفة أي اهتمام بالتفاوت الطبقي الرهيب الذي ينتج عن اقتصاديات السوق الحر، على أساس أن هذا التفاوت ظاهرة اجتماعية مقبولة ، كما أن هذه الفلسفة تعتبر دولة الرفاهية الاجتماعية هي أكبر أعدائها.
وقد تبنت هذه الفلسفة كلٌّ من انجلترا وأمريكا في الثمانينيات من القرن الماضي في عهد تاتشر في انجلترا وريجان في أمريكا .
وقد أدى ذلك التبني لتحول المؤسسات والمنظمات الدولية مثل منظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي لأدوات في يد أمريكا وانجلترا لتمرير هذه السياسات الاقتصادية المتطرفة على الصعيد الدولي .
وقد أسهم تفكك الاتحاد السوفيتي ، وسقوط الأيديولوجية الشيوعية في إطلاق يد السوق وتقليص دور الدولة وتحويل ملكية عدد غير قليل من مرافق الخدمات إلى القطاع الخاص ، مما ساهم في زيادة الهيمنة الأمريكية على العالم ، ولكنها أيضا ساهمت في تفاقم الهوة بين الفقراء والأغنياء في العالم بصورة كشفت عن وحشية هذه الليبرالية المتطرفة .
ففي أفريقيا ارتفع عدد الفقراء إلى 350مليون نسمة، أي أكثر من نصف تعداد إجمالي السكان.
وأميركا اللاتينية التي تبنت نخبها القيادية سياسات التصحيح البنيوي، سجلت في التسعينات معدلاً وسطياً للنمو يقل بـ 3% عن معدل السبعينات.
بل إن عملاقاً أميركياً لاتينياً مثل المكسيك (زهاء 100مليون نسمة) خسر 20% من قيمة ناتجه القومي السنوي، وتراجع مستوى الدخل الفردي فيه في 1997إلى المستوى الذي كان عليه عام 1979 ، ففي العام 1965كان الدخل الوسطي للفرد في بلدان هذه المجموعة يزيد بعشرين ضعفاً على مستوى دخل الفرد في مجموعة البلدان الأكثر فقراً في العالم، ولكن في 1995، تضاعف ذلك الفارق إلى تسع وثلاثين مرة.
مع دخول عصر العولمة عملت أمريكا عبر أدواتها ومؤسساتها الدولية في فرض نظريتها الاقتصادية على العالم ، وجعلت من مسألة تحرير التجارة العالمية والحفاظ على حرية السوق العالمي أولوية تعادل أولوية الحفاظ على الأمن القومي وأمن "إسرائيل"، فراحت تستخدم المؤسسات الدولية في عقد الاتفاقيات العالمية التي تحافظ على بقاء اقتصاديات السوق حرة ومفتوحة مثل اتفاقية الجات ، ثم اتفاقية الكويز ، ثم اتفاقية الحد من الانبعاث الحراري ، وغيرها من الاتفاقيات التي قضت على الخصوصية الاقتصادية للبلاد ، وأنهت بصورة أو بأخرى نظرية السيادة والحماية للمنتجات الوطنية ، وفرضت أمريكا ضغوطا جمة على دول مثل مصر مثلا من أجل خصخصة قطاعاتها الحكومية ، مما أدى لانهيار الاقتصاد المصري وإغلاق أكثر من 2500 شركة ومصنع يعمل بها مئات الألوف من العمال ، وخسارة ما يقرب من 550 مليار جنيه خلال عشر سنوات فقط .
غير أن أخطر ما في هذه الفلسفة المتطرفة أن تؤدي إلى حالة من الانقسام والاستقطاب داخل المجتمع الواحد مهما كانت قوته الاقتصادية وثباته الاجتماعي ، ففي أمريكا مثلا أدت هذه السياسات إلى تعميق حالة الانقسام داخل المجتمع بسبب رفض كثير من الأمريكان تعديل قوانين الضمان الاجتماعي والرعاية الصحية ، وتصاعد الجدل الإعلامي والنخبوي عن جدوى هذه التعديلات و أثرها الاجتماعي
حتى إن مجلة الإيكونومست التي تدعم خيار الليبرالية المتطرفة اضطرت إلى الاعتراف بدور هذه الفلسفة في خلق هذا الاستقطاب، وأشارت في تحقيق نشرته في أكتوبر 2006 إلى أن الاقتصاد في عهد بوش لم يكن رائعاً لمعظم العاملين، وذلك لثلاثة أسباب: الأول: كانت أجور العاملين حتى وقت قريب على الأقل راكدة، فيما بلغت أرباح الشركات مستويات عالية جداً، وظل الأميركيون ينفقون المال عن طريق الاقتراض مقابل قيمة منازلهم في معظم الأوقات، ومعدل توفيرهم الآن سلبي،
والثاني: هو أن مكاسب النمو انحرفت نحو ذوي الإيراد المرتفع، ويعني ذلك ازدياد عدم المساواة في الدخل،والثالث: تقلب الدخول . طبعا المجلة لم تكن تعلم أن أمريكا ستمر بسبب هذه السياسة في 2008 بأكبر أزمة اقتصادية في تاريخها ، وهي أزمة الرهن العقاري التي كادت أن تطيح باقتصاديات أمريكا بالكلية .
واليوم يكشف رئيس مصر المنتظر عن نيته واقتناعه التام بهذه الفلسفة الخطيرة ، ويعلن عن نيته اتخاذ قرارات صعبة وشديدة على المواطن المصري الذي عليه أن يحتملها شاء أم أبى ، وذلك بدعوى إنقاذ الاقتصاد المتدهور ، فيتحدث عن إلغاء الدعم خاصة على الوقود والطاقة ، مما ينذر بموجة ارتفاع أسعار عنيفة ، وإجراءات تقشفية شديدة ، والعجيب أن الأوضاع التي تمر بها مصر شديدة الشبه بالأوضاع الاقتصادية اليونانية التي زارها الرئيس المؤقت منصور للاستفادة من خبرتها في التعامل مع الشعب الغاضب من هذه الإجراءات.
وفيما يشبه الإسناد الحربي تقوم مؤسسات الدولة وأجهزة إعلامها النابعة والمؤيدة للانقلاب العسكري بتمهيد الأجواء لهذه القرارات الاستثنائية ، فوزير الاستثمار يكرر في عدة مناسبات مقولة أن مصر قد أفلست ، والرئيس المؤقت يتحدث عن ضرورة اختيار رئيس ذي شعبية جارفة حتى يتمكن من اتخاذ قرارات اقتصادية صعبة يتقبلها الشعب ، ووسائل الإعلام تخلت عن التزامها الصمت تجاه أزمات البلد منذ الانقلاب العسكري ، وأخذت في كشف الحقيقية المفجعة عن الأوضاع الاقتصادية ، في هرمونية وتناغم كبير مع تصريحات المسئولين بأن الأوضاع صعبة وخطرة ، وعلى الشعب ألا يرفع سقف طموحاته كثيرا لأن القادم أسوأ ، وعليه قبول الأمر الواقع ، والتذرع بالصبر لعدة سنوات وربما أكثر من عدة من أجل رفع مستوى المعيشية .
وبالجملة؛ فإن مصر قد أصبحت فريسة لفلسفة الليبرالية المتطرفة ، وعليها قبول اقتصاديات السوق كاملةً غير منقوصة ، وعليها الخضوع التام للإملاءات الأمريكية والتوجيهات الأوروبية في الشأن الاقتصادي ، وعلى الشعب المصري قبول هذه الفلسفة بحلوها ومرها ، وتحمُّل آثارها مهما كانت قسوتها ووجعها ، ولا يتحدث عن العيش أو الحرية أو العدالة الاجتماعية؛
لأن كل هذه الشعارات الثورية ستصبح أساطير نرويها للأجيال القادمة ، ونحن نقص عليهم قصة الثورة التي أضاعها أبناؤها بسبب الأطماع الشخصية والمكاسب الحزبية والصراعات الأيديولوجية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق