الأحد، 17 مارس 2024

رؤية حماس: قراءة سياسية في وثيقة استراتيجية

 

رؤية حماس: قراءة سياسية في وثيقة استراتيجية



في الحادي والعشرين من شهر يناير 2024، وبعد مرور نحو ثلاثة أشهر ونصف على معركة طوفان الأقصى التي أطلقتها حركات المقاومة الفلسطينية في إطار صراعها الممتد لتحرير الأراضي المحتلة منذ عام 1917، أصدر المكتب الإعلامي لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) وثيقة رسمية بعنوانهذه روايتنا.. لماذا طوفان الأقصى؟”.

تضمنت الوثيقة خمسة محاور أساسية، أولها: لماذا معركة طوفان الأقصى؟، وثانيها: أحداث 7 أكتوبر، والرَّد على ادّعاءات وأكاذيب الاحتلال، وثالثها: نحو تحقيق دولي نزيه، ورابعها: تذكير للعالم من هي حماس؟، وخامسها: ما هو المطلوب؟

وشددت حماس على أن طوفان الأقصى كانت خطوة ضرورية واستجابة طبيعية لمواجهة ما يُحاك من مخططات إسرائيلية تستهدف تصفية القضية الفلسطينية والسيطرة على الأرض وهويتها، وحسم السيادة على المسجد الأقصى والمقدسات، وإنهاء الحصار الجائر على قطاع غزة، والتخلّص من الاحتلال، واستعادة الحقوق الوطنية، وإنجاز الاستقلال والحرية كباقي شعوب العالم، وحق تقرير المصير، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس.

وأكدت حماس أنها استهدفت خلال تنفيذ العملية المواقع العسكرية الإسرائيلية وسعت إلى أسر جنود العدو ومقاتليه من أجل إطلاق سراح الآلاف من الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال، وتجنبت استهداف المدنيين وخصوصًا الأطفال والنساء وكبار السن، كالتزام ديني وأخلاقي يتربى عليه أبناء حماس..

لذلك أكدت الوثيقة على أن الصراع مع المشروع الصهيوني ليس صراعًا مع اليهود بسبب ديانتهم، فالحركة لا تخوض صراعًا ضد اليهود لكونهم يهودَا وإنما تخوض صراع ضد الصهاينة لأنهم محتلون يعتدون على الشعب الفلسطيني وأرضه ومقدساته.

وفي نهاية الوثيقة، طرحت الحركة عدداً من المطالب الأساسية، من بينها: وقف العدوان الإسرائيلي فورًا على قطاع غزة، العمل على معاقبة الاحتلال الإسرائيلي قانونيًا على احتلاله، ودعم المقاومة ضد الاحتلال بكل السُبل المتاحة باعتبارها حقًا مشروعًا وفقًا للقانون الدولي.

أهمية الوثائق في كشف الحقائق ومواجهة التضليل

وفي إطار ما تضمنته الوثيقة من مضامين، يمكن الوقوف على عدد من الأمور الأساسية، من بينها:

أولاً: الأهمية الكبيرة للوثيقة في هذا التوقيت، في ظل تداعيات معركة طوفان الأقصى، ومحاولات إسرائيل والدول التي تسير في فلكها ترسيخ سردياتها ورواياتها عن المعركة وعن حركات المقاومة، لذلك يكون من الأهمية بمكان في أوقات الصراعات، أن يكون هناك من يصيغون الوثائق التي تؤسس للمرحلة، وتؤكد على الثوابت والمنطلقات، في مواجهة حملات التضليل السياسي والإعلامي التي لم تقف عند حدود الأطراف الغربية المؤيدة والداعمة للكيان الصهيوني، ولكنها امتدت لعدد من الأطراف العربية، من دول النظم المُطّبعة مع الكيان.

ثانياً: أهمية رد القضية إلى جذورها الحقيقية، وأن الاحتلال الصهيوني ليس وليد اليوم، لكنه يعود إلى الاحتلال البريطاني لهذه الأراضي، منذ أكثر من 105 أعوام، واستخدام موارده وقدراته لتسهيل الهجرات اليهودية وتوطين العصابات على هذه الأرض، وحمايتها حتى تستكمل بنيتها، ثم ترك الرعاية والحماية للولايات المتحدة بعد انهيار الإمبراطورية البريطانية في الحرب العالمية الثانية.

ثالثاً: أهمية الوثيقة في ضبط المفاهيم للمتأرجحين والمتشككين الذين خدعتهم بعض الحملات الإعلامية وتعاطوا سلبيًا مثل: مقولة أن حماس هي البادئ بالعدوان، لأنها كانت المبادرة بالحرب في السابع من أكتوبر 2023، وهو أمر من المهم تدقيقه، لأن الحرب لم تبدأ في هذا التاريخ لكن هذا التاريخ كانت محصلة لعقود من الاحتلال والاستبداد والانتهاك للأرض والعرض والدماء والثروات والمقدرات والمقدسات، ونتيجة طبيعية لنحو 17 عامًا من الحصار و5 حروب مدمرة للقطاع..

وهو ما يؤكد على ضرورة قيام الحركات والجماعات السياسية أو المسلحة، بضرورة الرصد الدقيق لمضامين الحملات التي تستهدفها، وتحاول النيل من صورتها الذهنية، ثم بناء الرؤى الدقيقة الواضحة والمحددة لتفنيد هذه المضامين وتلك الحملات، وخاصة مع وجود قطاعات شعبية عربية تأثرت بتلك المضامين، وأخذت تُلقي باللوم على حركات المقاومة الفلسطينية وأنها السبب فيما يتعرض له القطاع من عمليات إبادة جماعية على أيدي العصابات الصهيونية وآلة الحرب الأمريكية، من البر والبحر والجو.

رابعاً: أهمية الوثيقة في ضبط الأرقام والإحصاءات عما يقوم به الاحتلال من انتهاكات، مؤكدة على أن من يتحدثون عمن سقطوا يوم طوفان الأقصى، يتجاهلون استشهاد نحو 12 ألف وإصابة 157 ألف فلسطيني بين عام 2000 وسبتمبر 2023، أغلبيتهم العظمى من المدنيين، وخاصة من الأطفال والنساء والشيوخ، وفق تقارير رسمية دولية وثقتها مؤسسات الأمم المتحدة ولجان التحقيق الدولية والمنظمات الحقوقية الدولية، الحكومية وغير الحكومية.

وهنا تأتي أهمية التأكيد في عملية توثيق الأرقام والبيانات على ضرورة الاعتماد على المنظمات والمؤسسات والأطراف الدولية والإقليمية والتقارير التي تصدر عنها، باعتبارها أطرافاً يتم النظر إليها في بعض الأحيان على أنها محايدة، وتشكل تقاريرها مستندات يمكن تحريك دعاوى دولية استنادًا عليها، وعدم الاكتفاء في مثل هذه الحالات على التقارير والبيانات الصادرة عن حركات المقاومة أو السلطة الفلسطينية، لأنه سيتم تصنيفها على أنها منحازة.

وهذا ما ثبتت أهميته في الدعوى التي حركتها دولة جنوب إفريقيا ضد الكيان الصهيوني أمام محكمة العدل الدولية، وظهر واضحًا في النص الرسمي الذي ألقته رئيسة المحكمة أثناء جلسة النطق بالقرار، حيث كانت معظم الاستشهادات والاقتباسات من تقارير وبيانات وتصريحات المؤسسات والهيئات الأممية.

الجانب القيمي والأخلاقي في مواجهة ممارسات الإبادة الجماعية

خامساً: أهمية الوثيقة في التأكيد على الجانب القيمي والأخلاقي لحركات المقاومة الفلسطينية، في مواجهة العدو في الميدان وفي التعامل مع أسراه، رغم عمليات الإبادة الجماعية والتدمير الشامل، ورغم كل الأساليب والممارسات غير الشرعية وغير الأخلاقية وغير القانونية التي تقوم بها قوات الاحتلال ضد الفلسطينيين وأراضيهم، دون تمييز بين طفل وشيخ، رجل وامرأة، مدني وعسكري، أو أخضر ويابس، على الهواء مباشرة أمام مرأى ومسمع من الجميع.

في المقابل كشفت ممارسات حركات المقاومة، كيف كان تعاملهم مع الأسرى، الذين تم الإفراج عنهم، وكيف يتعاملون مع الجرحى منهم، لكن هذا مع أهميته ونشره مصورًا ومقروءًا ومسموعًا، حتى تتداوله وسائل الإعلام المختلفة في مواجهة تزييف الحقائق الذي يمارسه الصهاينة، كان من المهم أن يتم التوثيق له في هذه الوثيقة الرسمية، لأنه سيتم النظر إليها فيما بعد على أنها دستور المرحلة أثناء المواجهة العسكرية.

سادساً: كان من المهم في الوثيقة، في إطار تفنيد الأكاذيب الصهيونية، الاستناد إلى الشهادات والتقارير الرسمية في وسائل إعلام الكيان المحتل نفسه، لأن المخاطب من الوثيقة ليس فقط العرب والمسلمون ولكن كل شعوب العالم المعنية بالقضية الفلسطينية.

سابعاً: حرص الوثيقة على التأكيد على المسارات السياسية والقانونية للمواجهة مع العدو الصهيوني في نفس الوقت الذي تتم مواجهته عسكريًا على الأرض في كل مدن فلسطين وقراها، لذلك نصت على: “أن مقاومة الاحتلال بالوسائل كافة، بما في ذلك المقاومة المسلحة، هو حق مشروع كفلته جميع الشرائع والأديان السماوية، وأقرّته القوانين الدولية، من اتفاقيات جنيف وبروتوكولها الإضافي الأول، إلى إعلانات وقرارات الأمم المتحدة ذات الصلة، ومن أبرزها قرار الأمم المتحدة 3236 في 22 نوفمبر 1974، الذي أكّد أيضًا على حق الشعب الفلسطيني في العودة، وفي تقرير المصير، وإن هذ الحق الثابت أكّدته أيضاً الممارسات والقرارات الدولية طوال فترات الاستعمار والاحتلال الأجنبي للكثير من البلدان التي نالت استقلالها في نهاية المطاف”.

وفي مقابل هذا النص، كان من المهم النص أيضاً على أن هذا الحق لا يتمتع به كيان احتلالي استيطاني بالأساس، لذلك نصت الوثيقة على: “إن الاحتجاج الإسرائيلي بذريعة “حق الدفاع عن النفس” في قمعها للشعب الفلسطيني، هي عملية تضليل وكذب وقلب للحقائق. فليس من حق الاحتلال أن يدافع عن احتلاله وجرائمه، وإنما من حق الشعب الفلسطيني أن يقوم بالمقاومة لإجبار الاحتلال على إنهاء احتلاله”.

الرؤية لحماس والدرس لكل حركات المقاومة

إن صدور هذه الوثيقة في هذا التوقيت، وفي ظل معركة طوفان الأقصى، خطوة مهمة في توقيت بالغ الأهمية، وتأكيد على أن للحرية ركيزتين أساسيتين، الأولى: صلبة يحملها المقاومون في الميادين الحربية، والثانية: ناعمة يحملها المقاومون في ميادين السياسة والإعلام والقانون والدبلوماسية، ولا يمكن الفصل بينهما، بل إن التقصير في أي منهما ستكون له نتائجه السلبية على الأخرى.

إن صدور الوثيقة بهذه المضامين في هذا التوقيت، هو درس لكل المدافعين عن الحرية والكرامة في مواجهة الظلم والفساد والاستبداد، أيًا كان موقعه وأيًا كان زمانه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق