مخيم جنين بين الذاكرة والسكين
منذ قرابة نصف عام مضى على الاجتياح المدمر لمخيم جنين ومخيمات طولكرم، تتجلى النكسات والإحباطات التي باتت تتصدر القضية المركزية، ويزداد المشهد الفلسطيني القاتم انكشافا أمام آلة التفتيت الإسرائيلية، التي لم تفتأ تحطم عضد الكينونة الفلسطينية برمتها حتى تطول الفرد الفلسطيني، وتحول الجسم السياسي الفلسطيني الجامع إلى جسد مثلوم البأس، منزوع الروح والفاعلية، ذي طبيعة وظيفية بيروقراطية لا تقوى على حمل المشروع الوطني أو صيانته.
تمر القضية الفلسطينية اليوم بمرحلة قد تكون الأكثر حرجا وحساسية منذ 1948، وبصورة مركبة وأكثر تأججا مع حرب إبادة تُشن على الضحية الفلسطينية، وعادت قضية المخيمات إلى واجهة المشهد من جديد، لا بوصفها بؤرا للمقاومة فحسب، بل كمساحات يُعاد من خلالها تشكيل العلاقة بين الفلسطيني وكيانه السياسي.
الإصرار على بناء مركز أمني على الأقل داخل المخيمات هو شاهد حي على المطلوب من هذه العملية العسكرية، لتتحول المخيمات برمزيتها من ساحات للاجئين والمقاومة إلى فضاءات هشة، فاقدة لعباءة الذاكرة
ما نراه من دمار في مخيمات اللاجئين شمالي الضفة الغربية- مع اعتبار فرق وحجم الدمار عما هو في قطاع غزة- هو امتداد لمعول هدم الذاكرة الجمعية الفلسطينية، متمثلا بركام المنازل، وتجريف السردية الفلسطينية، وتحويل الضحية إلى غائب عن التاريخ، ولاجئ مرتين: مرة بالقتل والنزوح والتشريد، ومرة بفقدان المعنى والانتماء.
اجتياح مخيمات اللاجئين في شمالي الضفة الغربية لأكثر من نصف عام لا يوحي بدلالة السعي للتخلص من المقاومة فحسب، بل يعكس بقدر أكبر ارتباط هذه العمليات بإعادة هيكلة روابط المركزية السياسية الفلسطينية -على ضعفها- وبسط التغيير الديناميكي بالقوة، والولادة القيصرية لتجمع فلسطيني جديد، ضعيف وهش ومنزوع الإرادة، يحتاج إلى وقت طويل وحقن متتالية من طلقات التشويه للوعي الجمعي، وتطويع السردية الفلسطينية لما يتلاءم مع شروطهم ومتطلباتهم.
في هذا السياق، جاءت زيارة المبعوث الأمني الأميركي لمخيم نور شمس قبل أسابيع، كمؤشر واضح على أن الزيارة ليست سوى تحرك أمني خالص، يحمل في طياته إشارات إلى ضرورة تسريع عملية توليد ذاك "الجنين" الجديد؛ فالإصرار على بناء مركز أمني على الأقل داخل المخيمات هو شاهد حي على المطلوب من هذه العملية العسكرية، لتتحول المخيمات برمزيتها من ساحات للاجئين والمقاومة إلى فضاءات هشة، فاقدة لعباءة الذاكرة التاريخية.
تتخطى العملية العسكرية في شمالي الضفة حدود البعد الميداني، لتغدو فصلا من رواية أكبر: رواية تهدف إلى تفريغ المخيمات من بعدها السياسي، وإعادة صياغة المعادلة الفلسطينية من أطرافها نحو مركزها
ما كان يُطلب سابقا على مضض، وبغض طرف من الولايات المتحدة الأميركية، بات اليوم معروضا على الطاولة وبقوة، كشرط متقدم لأي تسوية أو انسحابات مستقبلية.
فتقويض عمل وكالة الغوث الدولية "الأونروا" ، وتحييد حضورها الفعلي في المخيمات الفلسطينية، أصبح مطلبا أميركيا صريحا، يحتاج إلى من يوقع على قرار قتل نفسه بنفسه، في خطوة تمهد لإسقاط إحدى ركائز المشروع الوطني المتمثلة في قضية اللاجئين وحق العودة.
هذه المطالب، التي تُطرح كخيارات مريرة أمام الفلسطينيين، لا تقف عند حدود الضفة الغربية، بل ستمتد كظل ثقيل نحو مخيمات الشتات في دول الجوار، لتطول الوجود الفلسطيني برمته أينما كان.
هكذا، تتخطى العملية العسكرية في شمالي الضفة حدود البعد الميداني، لتغدو فصلا من رواية أكبر: رواية تهدف إلى تفريغ المخيمات من بعدها السياسي، وإعادة صياغة المعادلة الفلسطينية من أطرافها نحو مركزها.
وبين الذاكرة والسكين، يُختبر الفلسطيني مجددا في قدرته على حماية المعنى من أن يتحول إلى أرشيف ميت، وتُمتحن عزيمته على استدعاء حياته والاحتفاظ بذاكرته في وقت يُخيَر فيه بين أنياب الموت أو حياة حتى الموت، حياة بلا روح ولا سردية، لكنها لا تزال تحمل بذور التمرد على النسيان.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق