معركة الراية
لم يكن اللحن في القول حادثاً عابراً في أي مرحلة من مراحل الصراع بين الحق والباطل، بل كان ولا يزال خيطاً متصلاً ينسج به الباطل شبكاته، يلبّس به الحق بالباطل، ويشوّه به صفاء الكلمة الصادقة، ولم تكن معركة المصطلحات يوماً أمراً ثانوياً أو معزولاً عن صناعة الوعي وتشكيل العقول، فهي ميدان خفيّ تُخاض فيه أشرس المعارك، حيث تُقلب الحقائق وتُمسخ المفاهيم لتغدو القيود حرية، والعبودية تحرراً، والانحلال تقدّماً.
وكذلك لم تكن صناعة الأحداث وتضخيم الوقائع وتلوين المشاهد وتداخل المسارات إلا أداة من أدوات معسكر الضلال والطغيان، يحرّك بها الجماهير، ويهيّج بها العواطف، ويخلط بها الأوراق ليحجب أنوار الحق وسط ضوضاء الباطل، وهكذا تتابعت سُنّة التضليل والتشويه على مرّ العصور والدهور، تتبدّل أشكالها، وتتنوع أدواتها، ولكن جوهرها واحد؛ حربٌ على الحقيقة، واستنفارٌ دائم لإطفاء نور الله تعالى؛ (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) (الصف: 8).
ولم يكن من قبيل المصادفة أن يكون أول نداء يتوجه به القرآن إلى المؤمنين تحذيراً من خطر الألفاظ الدارجة والمصطلحات المتداولة؛ إذ تحمل في طياتها أحياناً معتقدات فاسدة، ونوايا ماكرة، ومعاني خبيثة تُساق في ثوب بريء، فجاء قول الله تعالى في مطلع سورة «البقرة» مخاطباً أهل الإيمان: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا) (البقرة: 104)؛ فنهى المؤمنين عن أن يجرّدوا ألسنتهم بترداد ألفاظ استغلها أهل الزيغ والاستهزاء في معانٍ باطلة، وعلّمهم بديلاً طاهراً مستقيماً يعبّر عن المعنى الصحيح دون لبس ولا انحراف.
«الأقصى» في وجدان الأمة ليس حجارة بل عنوان
السيادة الإيمانية وميدان الصراع ورمز استمرار الرسالة
إنها رسالة مبكرة للأمة في لحظة انطلاقتها القرآنية الأولى؛ أن الكلمات ليست أصواتاً جوفاء، ولا مصطلحات بريئة تُتداول بغير وعي؛ بل هي أوعية للمعاني، وحوامل للأفكار، ومفاتح لبناء العقيدة والفكر، ومن ثمَّ لبناء الحضارة والمجتمع، فالمفردة الواحدة قد تُشيد وعياً، أو تهدم وعياً، وقد تحفظ الهوية أو تذيبها، وقد تفتح أبواب النور أو تنشر ظلمات التضليل، ولهذا ربط القرآن منذ أول نداء بين الإيمان الحق وصيانة اللسان، ليُعلّم المؤمنين أن معركة المصطلح هي معركة الوعي، وأن صيانة الكلمة هي صيانة العقيدة والرسالة.
ومن ميادين هذا الصراع أيضاً معركة الراية؛ راية الإسلام العظمى، تلك التي تسلّمها النبي صلى الله عليه وسلم من ركب الأنبياء والمرسلين في ليلة الإسراء والمعراج، حين جمعهم الله تعالى له في بيت المقدس، فصلى بهم إماماً واجتمعوا خلفه مأمومين، وكأنهم جميعاً يسلّمونه راية القيادة، ويعقدون له لواء الخاتمية والولاية العامة على الرسالات والشرائع كافة.
إنه المسجد الأقصى، الذي لا يُختزل في عقيدتنا في كونه مسجداً مباركاً للصلاة فحسب، بل هو رمز للراية، وميثاق للأمانة، وقِبلة دائمة لأهل اليقين، ليس من جهة الاتجاه في الصلاة، ولكن من جهة الاتجاه في الرسالة، وإقامة الدين، وصيانة العهد الذي انتقل من موكب النبوات إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
فـ«الأقصى» في وجدان الأمة ليس حجارة ولا أطلالاً، وإنما هو عنوان السيادة الإيمانية، وميدان الصراع الحضاري، ورمز استمرار الرسالة حتى قيام الساعة.
.. وليس مجرد مسرى وإنما معيار إلهي خالد وراية ربانية شاهدة
تفضح المنافقين وتكرّم المؤمنين
وإن أهل الجهاد –بما أودع الله في قلوبهم من بصيرة– قد أدركوا قيمة تلك الراية، ومكانها الأصيل في مقدمة الصفوف، فالتفت الأمة حولها منذ الخطوة الأولى، لتوقن أن المعركة ليست نزاع مصالح ضيقة، ولا تطلعات حزبية آنية، ولا مناورات سياسية عابرة؛ بل هي معركة «الأقصى»، و«سيف القدس»، و«طوفانه» المبارك، إنها معركة تحت راية الحق الخالدة، وفي ميدانها المقدس، حيث تذوب الأسماء وتضيق الشعارات، ولا يبقى إلا عنوان واحد؛ «الأقصى»، الذي صار رمزاً جامعاً لكل مجاهد صادق، ولكل مؤمن مقاوم.
وقد تجلّى «الأقصى» معياراً ربانياً فاصلاً بين الصادقين والمنافقين، وبين أهل الثبات واليقين وأهل الانحراف والارتياب؛ كما قال الله تعالى: (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ) (البقرة: 143).
فقد جاء هذا البيان القرآني ليؤكد أن «الأقصى» نفسه -بما يمثله من ميثاق الرسالات وميراث النبوة- علامة فارقة في كشف صفوف الأمة، يميّز أهل الإيمان المتمسكين بعهد نبيهم، عن أهل النفاق الذين ينقلبون على أعقابهم.
ويكفي أن تلقي نظرة واحدة على مشهد «الأقصى» في أي وقت، لتبصر بجلاء الفئة الصادقة المنضوية تحت رايته، المتمسكة بمنهجه، المنافحة عن حياضه، المضحية في سبيله بالنفس والنفيس، وتبصر في المقابل الفئة المخذولة القاعدة، المثبطة المسايرة للطغيان، الموالية لخصوم الأمة، المسارعة إلى أولياء الكفر، لا تملك إلا ألسنة حداداً تطعن في المجاهدين، وتشوّه صور المقاومين.
فما أعظم بركات «الأقصى»! إنه ليس مجرد مسرى مبارك، وإنما معيار إلهي خالد، وراية ربانية شاهدة، تفضح المنافقين وتكرّم المؤمنين، وتظلّ عبر الأزمان نبراساً لهداية الأمة، وعنواناً لمعركة الحق مع الباطل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
لذلك، كان لزاماً أن ندرك أن تغييب راية المعركة عن ميدانها، وحصرها في حدود الحركة التي أطلقتها، أو الفصائل التي تبنّتها، أو البلد الذي احتمل تبعات التضحية في سبيلها، إنما هو لون من التزييف الفاضح، والتضليل المتعمد، فهو مكر كبير، وتضييع للبوصلة؛ إذ لا معنى للمعركة إذا غابت رايتها؛ فغياب الراية يعني غياب الغاية، وغياب أسباب اندلاعها، وغياب الرؤية في التعامل مع نتائجها وتضحياتها.
لو لم تكن القدس الراية المقدسة لما اشتعلت تلك المحارق
والإبادة فهي قلب القضية ومفتاح الصراع
ورغم أهمية الحديث عن الجرائم الدولية المرتكبة بحق غزة العزة؛ أرضها وأبنائها، رجالها ونسائها، أطفالها ومجاهديها؛ فإن هذا الحديث لا يجوز أن ينفصل عن السبب الجوهري الذي تداعت الأمم عليهم من أجله، وهو صدق انتسابهم إلى الراية الحقة، ورفضهم القاطع للتفريط في وجوب تحريرها، وإصرارهم على الإعداد لتطهيرها، ومعاداة مغتصبيها، والتضحية بكل غالٍ ونفيس في سبيل طرد من دنسها، وتربية الأجيال على محبتها، ورفع راية الإسلام خفّاقة عالية، حفظاً لأمانة النبي صلى الله عليه وسلم، ووفاءً لوصية الرسالات.
فلو لم تكن القدس هي العنوان الجامع، والراية المقدسة، لما اشتعلت تلك المحارق، ولما سُطّرت خطط الإبادة والتهجير والتجريف، فهي قلب القضية، ومفتاح الصراع، وعنوان التضحية.
ومن هنا، فإن على أهل الحق -من المجاهدين في ميادين الوعي، من علماء ومفكرين ورواد ومؤثرين وصنّاع رأي وإعلام- أن يستحضروا هذه الراية في كل خطاب، وألّا يفصلوا في أي تغطية للأحداث أو تحليل لمنهجيات الصراع بين غزة والقدس، بين التضحيات وغايتها، وبين الدماء التي سُكبت والراية التي من أجلها بُذلت، فالمعركة ليست أرقاماً ولا صوراً، بل هي معركة راية، ومعركة أمانة، ومعركة عقيدة.
وما لم نظل في هذا الميدان، ثابتين، راسخة أقدامنا، مبصرين الأمور على حقيقتها، موقنين بوعد الله تعالى لمن تترّس بالحق، وصدق في الانتساب، وبذل ما استطاع، فإننا سنفقد البوصلة، أما من ثبت على هذا النهج، فإن له إحدى الحسنيين؛ إما نصر مؤزر، وإما شهادة ترفعه إلى مراتب الخلود.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق