الفلسطيني الذي يريده العالم!

بينما ينازع الفلسطينيّ في غزّة البقاء، والفناء، وبينما يزدرد مرارة الحرب ويتجرّع لظى نيرانها، وبينما تلفظه نخب صناعة القرار في العالم، أصحاب الخُطَب المُنمّقة، والسياسات الحساسة للغاية، التي عليها كلّ مرة أن تؤكد الفارق بين من يحمل السلاح في غزّة ومن يحمل دلوًا فارغًا، كأنّ هذا ليس ابن ذاك، أو كأنّ الواقفة على طابور الطحين ليست أمّ المجاهد في ثغره بالنفق، يبحث أرباب السياسات عن ذلك الفلسطينيّ “الطيب” الذي في خيالهم، مهما كبّدهم البحث من عناء، لأنّه قليل، لكنّه موجود.
ومواصفات ذلك الفلسطيني ليست عسيرةً لمن أراد أن يتقدّم للالتحاق بوظيفةٍ في مكتبٍ أوروبيّ، فهو ضحيّة دائمًا، ومطية مستغفلة، لا مشكلة لديه بأن يتلقى ألف صفعة، وهو ينادي على عدوّه أن أرجوك أنا مسالم، لا أحملُ سلاحًا ولا أعترف بمن يحمله، ويتوقّف حقّ المقاومة عندي على التمسك بتاريخٍ زال، يوم كان المقاوم هو ذاته السلطة، أمّا الآن، فالبقاء للسلطة لا للمقاومة، ولتقاوم بأيّ طريقةٍ شاءت، ولو تألمًا في مرافق الأمم المتحدة الخلفيّة، وركوعًا في غرفها المغلقة، طلبًا لحماية لن تحدث أبدًا.
ذلك الفلسطينيّ، ضالّة العالم الحديث، وضالّة الرجل الغربي، هو الذي يريد أن يصافحه في كلّ مناسبة، ليقول إنّني أهتم، وإنّني حقًّا إنسان، لا أميّز، بين أبناء جلدتي البيض، وبين الأبيض الذي يشبه أبناء جلدتي من أولاد الكلب الذين على الطرف الآخر، فلسطينيّ “محلِّل” يشرعنون به علاقتهم المحرّمة مع الاحتلال الإسرائيلي، فوق أنهار من جرحنا الغائر، سينادون على ذلك الفلسطينيّ كلّ مرةٍ أن أيّها الـ”جاي” الوسيم، أقصد “Guy” بالطبع.
بينما يبتسم صديقنا في مزيج بين الألم، وإظهار الأسى، عاضًّا شفتيه، ليظهر للعالم، كم هي الحياة في غزّة مؤلمة، بسبب أولئك الأوغاد، السفلة، المجرمين.. الذين جلبوا على المدينة أوبال الحرب، حين قرّروا المقاومة بالطريقة الصادقة الوحيدة التي يعرفونها.
سيجوب ذلك الفلسطينيّ الطيّب العالم، ستفتح له أكبر الأبواب، وتخرُّ له أحضان الجبابرة، وتخضع له مكاتب اللوبيّات، بينما ينتقد بفلسفة عجيبة أخاه الذي في النفق منذ عشرين عامًا يحضّر ليومٍ يمرِّغ فيه أنف العدوّ الذي اغتصبه ذات يوم، لكن صاحبنا، الفلسطينيّ الذي يريده العالم، كان يستمتع باللحظة، وبأكبر منها، لتكون تلك هي تحديدًا جريمة صاحبنا المقاوم، أنّه حرمه من حيث لا يدري، من لذّة العيش تحت بسطار غاصبه!
سيحتفون بذلك الفلسطينيّ كما لم يحتفِ أحد، وربما يرشّحونه لجائزة قلب أمه الدوليّة، ويؤسّسون له مؤسسات باسمه، ويجمعون مئات الآلاف عطيةً لأحلامه المراهقة، ويدعونه لمؤتمراتهم الفاخرة، ويمنحونه تأشيراتٍ بلا عدد وهم يأمنون جانبه، فلن يقول ما لا يعجبهم، ولن يتحوّل فجأةً على خشبة المسرح إلى أنس الشريف مثلًا، كصوتٍ حيٍّ للفلسطينيّ الذي لا يريدونه رغم أنّه كذلك لا يحمل سلاحًا ولا عدسة، سيصفّقون له، وهم متأكدون بأنّ المؤدي سيظلّ يصطنع كلّ شيءٍ، تراجيديا أو كوميديا، فهو في النهاية “مشخصاتي” لا شخصيّة بحدّ ذاته، وهذا تحديدًا هو “مُنى عين” المخرج، على مسرح النجاسة العالمي!
سيعيش ذلك الفلسطينيّ طويلًا، على قفا الفلسطينيّ الذي مات سريعًا، سيعيش ويدّعي وصلًا كاذبًا بهؤلاء الذين استشهدوا رغم أنّه كان يقطّع فروتهم في كلّ مناسبة، ولن يعودوا إلى الحياة لينفوا ادعاءاته، وسيحاول في كل فرصة أن يعزّز الرواية الإسرائيلية، أن يفصل بين الفلسطينيّ المقاوم والفلسطينيّ العادي، رغم أنّهما إنسان واحد، حمل السلاحَ أم لم يحمل، فهو فلسطينيّ عادي، وحمل السلاح أم لم يحمل، فهو فلسطينيّ مقاوم، الشيء الوحيد الذي سينزع عنه إحدى صفتَي “العادية” و”المقاومة” هو أن يكون خائنًا، أو عميلًا، أو سحّيجًا، أو خواجةً، أو غبيًّا بالفطرة، فإن ذلك يقتلع “فلسطينيته” من شأفتها أصلًا، وحينها لم تعد يتبقى له من نسبه إلى فلسطين شيء، سوى، أنّه الفلسطينيّ الذي يريده العالم، حتى ولو كان الفلسطينيّ الذي لا تريده فلسطين نفسها!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق