غزة والديمقراطية: القاتل واحد
يتكرر المقرّر المدرسي البسيط كل يوم بل كل ساعة. من قتل الديمقراطية في الوطن العربي قبل الربيع العربي وبعده هو نفسه من يقتل في غزة.
القاتل واضح الوجه والنيات، والقتيل يتفق معنا في التحليل، ولكنه لا يمر إلى الفعل إلا أمانيَّ أو أدعية ورؤى، فقد هجمت علينا هذه الأيام “فيديوهات” الذي زارهم النبي الأكرم وبشَّرهم بالنصر.
يقوم المقرَّر الذي وضعه القاتل أن هذه المنطقة لا حق لها في التحرر ولا في الحرية، ويجب ضربها على “يافوخها” كلما عنَّ لها أن ترفع رأسها مطالبة بحقوق يتمتع بها بقية الناس في أغلب بقاع العالم.
سبقنا الكثير إلى طرح الأسئلة عن الأسباب وتوقُّع النتائج واقتراح الحلول، وها نحن نسهم في النقاش ونعمل على تعريف القاتل وربطه الاستراتيجي بين محاربة الديمقراطية وحرب غزة ومنعها من الحياة. إنه يسبقنا إلى فهم الدرس التاريخي.
تاريخ طويل من الحرب
عندما سمع العرب عن الديمقراطية من الغرب منذ قرنين لم يكن الغرب نفسه قد صار ديمقراطيا كما هو عليه الآن.
هذا الغرب الذي درَّب نفسه على الديمقراطية ومتع شعوبه بالحريات الكاملة، اختار ألّا يأتي بلاد العرب بمنتوجه الديمقراطي بل بمنتوجه الحربي، فاحتل الأرض وقهر الناس ونهب الثروات ليبني ديمقراطيته بالفائض الاستعماري.
بدأت الحرب وتواصلت حتى اللحظة على قاعدة: ثروات العرب (والأفارقة) صالحة لبناء الرفاه في الغرب، ولذلك وجب ألّا يتمتعوا بها ولا يبنوا بها ديمقراطيتهم ودولهم التي يمكن أن تقف في وجه الغرب الاستعماري.
وقد لخَّصها جورج بوش الابن وهو يدخل العراق غازيا محتلا: (العرب لا يستحقون نفطهم، فهو لنا).
غيَّرت الحرب أشكالها ووسائلها من احتلال مباشر إلى احتلال بوساطة محلية (منتخبة أحيانا بالصندوق)، وتأتي غالبا على دبابة مباركة من الغرب، وقمة الاحتلال كان الكيان السرطاني المزروع في قلب المنطقة وشعوبها، ليقوم بالدور كله الذي سبق ولحق.
بلاد العرب غنية بأهم ما يبني الدول: الثروات المادية والبشرية الشابة، فضلا عن الموقع الجغرافي ومعطيات المناخ التي تزيد المنطقة قوة. والعرب بوصفهم شعبا واحدا أو شعوبا، وعَت المعادلة منذ زمن، لكن وعيها لم يبلغ مبلغ تحريرها. لقد صارت تتكيف مع الاستعمار لتخدمه لا لتنقضه.
في ستينيات القرن العشرين كان بلد عربي مثل تونس يصدّر إلى فرنسا يدا عاملة رخيصة تقوم بكنس الشوارع وتنظيف حظائر الأبقار، وبعد نصف قرن صار يصدّر الأطباء والمهندسين الذين صُرف عليهم (دم قلبه)، لكنه لم يخلق اقتصادا يستوعبهم، بل يعدّ أن تصدير الخريجين غنيمة وتقدما وتنمية.
كيف أفلح الغرب في اختراق هذه الكيانات السياسية (أو اصطناعها) وتحويلها إلى أدوات؟ هذا ما يستحق دراسات مستفيضة ليس هذا موقعها، ولكننا نخلص إلى أن هذه الأدوات هي نقطة ضعف العرب.
وقد صارت السبب الرئيس قبل المحتل نفسه في قهر الشعوب ومنعها من حريتها (في الداخل) وتحررها (من الخارج)، وقد وضّحت غزة/الطوفان الفضيحة بما يكفي لكي يتضح وجه القاتل الرئيس والقاتل الثانوي، لنقل: يتضح لنا وجه القاتل المتضامن ضد حرية المنطقة وتحررها.
لماذا يقتلوننا؟
كان الأمريكيون (والأوروبيون بالتبعية) يطرحون سؤالا: لماذا يكرهنا العرب؟ وقد وجدوا إجابته فكفّوا عن طرحه، لكنهم لم يعالجوا أسباب الكره، بل غالوا في الأسباب.
نحن نعرف لماذا يقتلوننا؟ نحن الشعب الذي قاوم منذ قرون ولم يدخل في أجندة الغرب.
الذين قالوا: لأننا مسلمون وعندنا دين مقاوم (الإسلاميون) لم يخطؤوا، والذين قالوا: لأننا شعوب تملك أسباب القوة البشرية والثقافية تجعل منها قومية فعّالة (القوميون) لم يخطؤوا أيضا، وحتى الذين قالوا: نحن بروليتاريا العالم وهم إمبرياليته (اليسار) لم يخطؤوا.
هذه الإجابات كلها صحيحة، وهي إذا اجتمع القائلون بها ازدادوا قوة، لكن هنا تتجسد معضلة يعسر علينا حلها: هؤلاء كلهم رغم اتفاق التحليل لم يتفقوا على فعل مقاوم، بل وقعت بينهم بغضاء حولتهم إلى أدوات احتلال، وها هي غزة تعيد توضيح الصورة مرة أخرى.
ليس أوضح ولا أصدق من حرب غزة أخلاقيا وسياسيا، ولكن فرقاء الأوطان من النخب تختلف رغم هذا الدم الفصيح،
(وكم كان مظفّر النواب فصيحا وهو ينزف جملته: أيحتاج دم بهذا الوضوح إلى معجم طبقي لكي يفهمه؟).
الإجابة عن السؤال أعلاه: إنهم يقتلوننا لا لأننا أقوياء بشريا وأغنياء بثرواتنا الطبيعية ومسلمون فحسب، بل لأننا مختلفون، واختلافنا يسمح لهم بقتلنا بسهولة. نحن طريدة سهلة. نحن غنيمة متاحة على قارعة طريق الأمم. (نحن شعوب قُبرة تحتاج فخا فقط)، ولا داعي لتوظيف سلاح ثقيل لصيدنا. (يتردد في مسمعي صوت محمود عباس في منبر الأمم المتحدة وهو يدين سلاح المقاومة… احمونا).
المنعة الداخلية هي الدرع الذي ينهي القهر في الداخل ويقطع يد المحتل. وهذه المنعة تكتسب بالديمقراطية. تكمُل الدائرة عندنا.
نحرر الأوطان من المحتل الداخلي (العميل) بالديمقراطية، فنحرر بالنتيجة فلسطين وغزة وكل مربع واقع تحت الاحتلال حتى خارج الرقعة العربية (لسنا وحدنا المقهورين).
التدرع بالديمقراطية وقد تعلمنا الدرس في الربيع العربي.
في الديمقراطية يقول رئيس منتخب: (لن نترك غزة وحدها).
في غير ذلك يقول رئيس جاء على دبابة: (لا أستطيع فتح المعبر).
تكتمل الدائرة عند الغرب أيضا. لو حكمت شعوب المنطقة بالديمقراطية فلن يبقى لنا منها مغنم، ستعود خيراتها مهما طالت تجربة البناء الديمقراطي إلى شعوبها، ونُقتلع منها كأننا لم نكن.
هل يحتاج الأمر إلى المزيد من التوضيح؟ (هذه من الواضحات الفاضحات). لننظر مرة أخيرة إلى من يمنعنا من حريتنا المفضية إلى الديمقراطية (في الداخل).
ذلك هو قاهر غزة الحقيقي. لنختم: من لم يتعلم الدرس الغزاوي في تلازم الحرية والديمقراطية (الداخل) والتحرير (الخارج) فلن يتعلم أبدا، والمقرر الذي عرضت أعلاه لن يجديه نفعا.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق