غباء مُبهج أم وعي مُنهك؟
في لحظة تأمل عابرة، قد يخطر في بالك سؤال يبدو بسيطًا لكنه يحمل في طياته تعقيدًا وجوديًا: لماذا يبدو بعض الناس أكثر سعادة كلما قل وعيهم؟ ولماذا كلما اتسعت مدارك الإنسان، ضاقت عليه الحياة؟ هذا السؤال ليس جديدًا، بل هو رفيق قديم للفكر البشري منذ أن بدأ يتساءل عن معنى السعادة، وعن الثمن الذي يدفعه في سبيل المعرفة.
منذ سقراط، الذي رأى أن الجهل جزء أصيل من السعادة، إلى أفلاطون الذي صور الحقيقة كضوء يعمي بصيرة سجناء الكهف، ظل الفلاسفة يتأرجحون بين تمجيد المعرفة والتحذير من تبعاتها. فالمعرفة لا تمنح الطمأنينة، بل تفتح أبوابًا لا تُغلق من الأسئلة، وتُشعل في العقل نارًا لا تنطفئ. الطبيب الذي يعرف أن جسده مهدد في كل لحظة، لا ينام كما ينام من يجهل ذلك. والعالم الذي يدرك أن الأرض ليست سوى ذرة في كونٍ لا نهائي، لا يشعر بالطمأنينة كما يشعر من يراها مركزًا للوجود.
في المقابل، يبدو الجهل كدرع واق، يحمي صاحبه من وخزات الإدراك، ومن مرارة الوعي. الطفل لا يسأل عن معنى الحياة، ولا يقلق من الموت، ومع ذلك يضحك أكثر منا جميعًا. الجاهل لا يطارد الحقيقة، ولا يغرق في التحليل، ومع ذلك يعيش يومه كما لو كان هدية. كوستاف فلوبير، ساخرًا، وصف السعادة بأنها أن تكون غبيًّا وأنانيًّا وتتمتع بصحة جيدة. أما المتنبي، فكان يرى أن أخلى الناس من الهم هم الأقل فطنة، وكأن الذكاء لعنة لا تُحتمل.
لكن هذا لا يعني أن نُمجد الجهل أو ندعو إلى الانسحاب من المعرفة. بل هو دعوة للتأمل في الثمن الذي ندفعه حين نعرف أكثر مما ينبغي. فالمعرفة، في جوهرها، لا تترك العقل يهدأ، بل تدفعه إلى مزيد من التساؤلات، ومزيد من القلق، ومزيد من العزلة. إنها تُعرينا من بساطة العيش، وتُحملنا عبء الإدراك. وربما لهذا السبب، يهرب كثيرون من التفكير العميق، ويختارون حياة سطحية مليئة بالأنشطة اليومية، فقط ليُسكتوا ضجيج الأسئلة في رؤوسهم.
وفي عالم تتسارع فيه المعلومات، وتُغرقنا فيه الحقائق، قد نصل إلى نقطة نعيد فيها التفكير: هل نحتاج إلى كل هذا؟ هل سنشهد مستقبلًا يُثمن البساطة ويُعيد الاعتبار للجهل الجميل؟ ربما تظهر فلسفات جديدة تدعو إلى «الوعي الانتقائي»، حيث نعرف فقط ما يُسعدنا، ونتجاهل ما يُنهكنا. وربما يصبح الجهل خيارًا واعيًا، لا نتيجةً للقصور، بل رغبةً في النجاة من تعقيد لا يُطاق. وقد لا يكون هذا الجهل تقليديًا، بل نوعًا من التخفف الذهني، حيث نُدرك أننا لا نحتاج إلى معرفة كل شيء لنعيش حياة ذات معنى.
لسنا بصدد تمجيد الغفلة، ولا ذم الوعي، بل نحن نحاول أن نفهم: لماذا يبدو العارف مهمومًا، والجاهل مرتاحًا؟ ربما لأن العقل لا يهدأ حين يعرف، وربما لأن القلب لا يحتاج إلى كل تلك الحقائق ليشعر بالفرح. في النهاية، السعادة ليست في عدد الكتب التي قرأناها، ولا في عدد الأسئلة التي أجبنا عنها، بل في قدرتنا على أن نضحك رغم كل شيء، أن نحب رغم كل شيء، وأن نعيش رغم كل شيء. فهل نجرؤ على أن نكون «أقل معرفة» لنكون «أكثر حياة»؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق