من «هل» إلى «كيف».. فلسفة قَدَر الأمة في حماية المسجد الأقصى وتحريره
هل الأمة قادرة على حماية المسجد الأقصى؟
سؤال مراوغ يندسّ في ثوب الاستفهام ليخفي داخله مصادرة للحقيقة قبل مصادرة الجواب؛ إذ حماية المسجد الأقصى قدرٌ جُبلت عليه الأمة، إنّه قدرٌ تتعرّف به إلى ذاتها، ويختبرها التاريخ من خلاله، وتوزَن فيه موازين البقاء والفناء.في ساحاته تُمحَّص الدماء، وعلى أبوابه يُفرَز الصادق من المدّعي، وبين جدرانه ينعكس وجه الأمة في مرآة الوعي الجمعي؛ فـ«الأقصى» ليس حجارة مرصوفة، ولا قبّة مطلية بالذهب، بل هو قلبٌ نابض في صدر الأمة، كل نبضة فيه صدى من صلواتها وآهاتها وانتصاراتها وانكساراتها، وكل حجر فيه شاهد على أن الروح التي فقدت قبلتها تفقد وجهتها في الحياة.
وحين يُطرح السؤال الأصيل، يخرج بصيغة واحدة: كيف تمارس الأمة قدرتها؟ فالقوة كامنة في عمق كيانها منذ أن وُلدت على كلمة التوحيد، متجذّرة في عروقها كتجذّر الزيتون في تراب فلسطين، غير أن ركام الوهن يعلوها أحياناً، ويغشاها صدأ الغفلة، حتى يُخيَّل للبعض أن معدنها تآكل.
الذي تراجع في عصور الانكسار لم يكن السلاح وحده، وإنما اليقين بالنفس، والشجاعة على مواجهة التحدي، والمنظومة القيمية التي ترى في الموت في سبيل الحق عبوراً إلى حياة أرحب، وفي الزهد بزخارف الدنيا باباً إلى الغنى الأوسع، والأمة التي تعود إلى هذه المنابع لا تسأل: هل أقدر؟ وإنما تسأل: متى أنطلق؟ وكيف أبلغ المدى الذي كُتب لي في قدر الله تعالى والتاريخ؟
الإيمان بالذات.. بداية الطريق
حماية «الأقصى» وتحريره تبدأ من الداخل قبل أن تُقاس على خرائط الميدان؛ فالأمة التي انكسرت روحها يستحيل أن تنتصر سيوفها، والوعي المرتجف لا يجرؤ على رفع بندقية أو صياغة خطة.
الإيمان بالذات هو الشرارة التي تشعل وقود القوة، والمِفصل الذي تتفرّع عنه كل حركة في طريق التحرير؛ إنه يقين داخلي ينهض من صميم الوعي بأن القدرة ليست هبّة عابرة، وإنّما هي جوهر متأصّل في بنية الأمة منذ أن وُلدت على عهد التوحيد.
حين يتجذّر هذا الإيمان تتحوّل كل أداة إلى سلاح نابض، وكل فكرة إلى خطوة، وكل دمعة إلى ذخيرة، وأما غيابه فيحوّل حتى المدافع إلى هياكل خاوية، والخطط إلى خرائط معلّقة على الجدران.
هذا الإيمان ليس زهواً أجوف، ولا حماسة تذروها الرياح، وإنما هو إدراك معرفي وروحي بأن الأمة التي أسقطت إمبراطوريات، وأطفأت نيراناً عاتية في التاريخ، قادرة على أن تصوغ فجراً جديداً إذا عادت إلى منبعها الأول، وأيقظت في ذاتها الطاقات الكامنة التي تنتظر إرادة تُطلقها.
إرادة المواجهة.. القلب النابض للقوة
امتلاك القدرة يظلّ معطّلاً إذا غاب العزم على
استعمالها؛ فكم من أممٍ امتلكت العدة والعدد، ثم
انطفأت جذوتها حين خمدت إرادتها، فالأمة تحتاج إلى
إرادة مواجهة تتّسع لهيب المعركة وطول النفس،
إرادة تسمّي العدو باسمه من غير مواربة، وتواجه
الخيانة في صفوفها بلا وجل، وتهشم جدار العجز
الذي يتخفّى خلف أقنعة الواقعية المزيّفة.
هذه الإرادة عهد تاريخي تُبرمه الأمة مع دمائها
وذاكرتها، التزام يمتد بامتداد الزمان، واستعداد واعٍ
لحمل أثقال التضحية التي لا بدّ منها في درب
التحرير، وحين تسكن هذه الإرادة في قلب الأمة،
تتحوّل معركة «الأقصى» المبارك من حدث موسمي
إلى نبض يومي، ينساب في مدارسها ومنابرها، وفي
إعلامها وأسواقها، وفي سياساتها وقراراتها؛ عندها
تصبح حماية الأقصى قضية حياة تُصاغ بها المناهج،
وتُدار بها الثروات، ويُربّى عليها الجيل الجديد، حتى
تغدو المواجهة مع المحتل جزءاً من هواء الأمة
ومائها، لا شعاراً عابراً في لافتة أو هتاف.
قلب منطق الغثائية.. من حب الدنيا إلى الزهد فيها
جوهر التحوّل أن تنقلب المعادلة التي نعى النبي صلى الله عليه وسلم على الأمة وقوعها فيها حين قال: «ولَيقْذِفنَّ اللهُ في قلوبِكم الوَهَنَ»، وفسّره بأنه حب الدنيا وكراهية الموت، فالأمة التي تغلّف روحها بأغلال التعلّق بمتاع زائل، وتستوحش من عبور الموت، تُعجِز نفسها عن خوض معركة لا تُفتح أبوابها إلا بروحٍ تتجاوز الأنا الضيقة إلى أفق الرسالة العريض؛ فالتحرير لا ينهض به من يحرص على كرسي وثير أو حساب متخم أو سقف بيت، إنما يصنعه من يزهد في زخرف فانٍ ليفتح لنفسه ولأمته باب مجد باقٍ.الزهد هنا ليس هروباً من ميادين الحياة، بل تحرّر من سلطان الخوف على ضياعها، والاستهانة بالموت ليست عشقاً للفناء، وإنما وعيٌ بأن الموت في طريق الحق عبور إلى حياة أوسع، وأن الفناء الحق هو أن نُمدَّ العمر في ذلّ، وتُطوى الصفحات وأرضنا تداس و«أقصانا» يرزح تحت يد الغاصب.
وحين يتحد الإيمان بالذات مع إرادة المواجهة، ويُقلب منطق الغثائية إلى منطق الفداء، تصبح «كيف» سؤالاً عن الخطة لا عن المبدأ، وهنا يبدأ الحديث عن تعبئة الأمة، وتنظيم قوتها، وصياغة مشروع حضاري يجعل التحرير غاية تتوزع أعباؤها على جميع مفاصل الحياة؛ فالمعركة على «الأقصى» ليست معركة بندقية وحدها، وإن كانت البندقية قلبها الحاسم، بل هي معركة فكر وتربية واقتصاد وإعلام، معركة تحرّر الأمة من قيودها قبل أن تحرّر أرضها.
«الأقصى» قدر الأمة ومرآة تاريخها
المسجد الأقصى ليس صفحة في كتاب الجغرافيا ولا فصلاً في كتاب التاريخ، بل هو الكتاب نفسه الذي تُكتب فيه الأمة سطور وجودها؛ من محرابه تبدأ القصة، وعند ساحاته تُختبر نهايتها؛ فإن حُمِي «الأقصى» كتبت الأمة فصلاً جديداً من مجدها، وإن تُرك كتبت شهادة غيابها.الأمة التي تتردّد أمام «الأقصى» إنما تتردّد أمام مرآتها؛ فهي حين تدافع عنه تدافع عن حقيقتها، وحين تحرّره تحرّر نفسها من قيود الوهن، وحين تُهمل قضيته تُهمل معنى أن تكون، فـ«الأقصى» ليس أمانة في أعناقنا فحسب، بل هو تعبير عن ماهيتنا؛ هو الحدّ الفاصل بين أمة تتدفق في شرايين التاريخ كالنهر، وأمة تتحوّل إلى جدول آسن على هامش الزمان.
وحين تتذكّر الأمة أن قدرها أن تحميه، وأن وجودها مرهون بظلّ مآذنه؛ فإنها تدرك أن معركة «الأقصى» ليست انتظاراً للفرصة بل صناعة لها، يومها؛ لن يكون السؤال: هل نحرّره؟ بل: متى نحرّره؟ ولن يكون: هل نستطيع؟ بل: كيف نصنع الطريق الذي يقودنا إليه، ويمدّ جذورنا في أرضه كما تمتد مآذنه في السماء.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق