الرئيس ميتران وهجمات باريس
مهنا الحبيل
كان أبرز موقف سياسي يسجله العالم الغربي بعد فوز جبهة الإنقاذ الجزائرية الإسلامية التوجه، في ديسمبر/كانون الأول 1992، هو موقف الرئيس الفرنسي فرنسوا ميتران في حينها، الذي اعتبر تصريحه يومها أكثر من معارضة وتخوّف من فوز الإسلاميين على ضفاف البحر الأبيض المتوسط، ولكنه ارتقى إلى تهديد ضمني في حينها.
وفي ذلك الحين كانت قاعدة "الدولة العميقة" في الجزائرلدى الإرث الفرنكفوني العسكري والمدني قوية، وهي القاعدة التي كانت مناهضة لإصلاحات الرئيس الشاذلي بن جديد، التي انتهت إلى انتخابات حرة، حسم الصندوق والخيار الديمقراطي فيها الأمر لمصلحة الإسلاميين، وتحديدا لمصلحة الكيان الجديد (جبهة الإنقاذ الإسلامية) الذي وُلد بعد حملة تصحّر شرسة، مارسها النفوذ الفرنسي و"اللائكية" المتطرفة ضد الفكر الإسلامي والحريات الشعبية عبر استبداد نخبة سياسية نافذة.
ولم يكن فوز جبهة الإنقاذ يعني خلو مشروعها السياسي من أخطاء ولا مسؤوليات فيما يتعلق بالفكر السياسي، أو بنقص الوعي الإسلامي الراشد والذكي الذي يحتاج إلى تجربة واسعة لتحقيق مسؤولية الحكم، أو فهم تداول السلطة في عملية ديمقراطية وليدة.
وفي ذلك الحين كانت قاعدة "الدولة العميقة" في الجزائرلدى الإرث الفرنكفوني العسكري والمدني قوية، وهي القاعدة التي كانت مناهضة لإصلاحات الرئيس الشاذلي بن جديد، التي انتهت إلى انتخابات حرة، حسم الصندوق والخيار الديمقراطي فيها الأمر لمصلحة الإسلاميين، وتحديدا لمصلحة الكيان الجديد (جبهة الإنقاذ الإسلامية) الذي وُلد بعد حملة تصحّر شرسة، مارسها النفوذ الفرنسي و"اللائكية" المتطرفة ضد الفكر الإسلامي والحريات الشعبية عبر استبداد نخبة سياسية نافذة.
ولم يكن فوز جبهة الإنقاذ يعني خلو مشروعها السياسي من أخطاء ولا مسؤوليات فيما يتعلق بالفكر السياسي، أو بنقص الوعي الإسلامي الراشد والذكي الذي يحتاج إلى تجربة واسعة لتحقيق مسؤولية الحكم، أو فهم تداول السلطة في عملية ديمقراطية وليدة.
"لم يكن فوز جبهة الإنقاذ يعني خلو مشروعها السياسي من أخطاء ولا مسؤوليات فيما يتعلق بالفكر السياسي، أو بنقص الوعي الإسلامي الراشد والذكي الذي يحتاج إلى تجربة واسعة لتحقيق مسؤولية الحكم، أو فهم تداول السلطة في عملية ديمقراطية وليدة"
ويتأكد ذلك خاصة إذا علمنا أن الجذور الإسلامية المعتدلة، المنتمية لخط الكفاح الأول لعلماء الجزائر، وفكر مبشر النهضة الكبير مالك بن نبي، كانت تُخنق بشدة، عبر استدعاء لغة يمينية وأيديولوجية حادة تأثرت ببعض انحراف صحوة الخليج الدينية، من حيث التشدد، ضد مدارس أهل السُنة، وضد منهجية الفكر الإسلامي الوسطي.
كان هذا النمط من التفكير يتمدد في بعض القواعد الشبابية للإنقاذ، خلافا للرأي الإسلامي العام في الجزائر الذي يميل بطبعه للاعتدال وإن غلبت عليه حدة المزاج تجاه إرث استعماري فرنسي مارس الإرهاب بشراسة على شعب صلب لم يرضخ له، وكانت بلاط الشهداء هي طريق حريته من الاستعمار، لكن لم يستكمل التحرير السياسي للشعب من الحكم الشمولي، وهو ما ساهم في بقاء الجزائر متأثرة بهيمنة الصديق العدو، في ضفاف الأطلسي.
غير أن قواعد اللعبة السياسية كانت تُثبت أن الجناح السياسي المدني في الفيس (اختصار جبهة الإنقاذ)، قد اجتذب تياراته المحافظة والمتشددة إلى العملية السياسية، وبالتالي سيكفل هذا التداول، ومن أول تجربة للإنقاذ، تقييم قدرتها السياسية.
ومن المعلوم أن المشاعر ذاتها توسّعت في الشارع المصري بعد فوز تحالف الإسلاميين (الإخوان والسلفيين) في الانتخابات، وأعطت مؤشرا لتغيير جداول التصويت بصورة مؤثرة، في أول فرصة انتخابية ستُتاح، لكن التفجير الدموي الذي أسست له 30 يونيو، أجهض في 3 يوليو/تموز حلم 25 يناير المصري بكل تياراته.
في حين لم يُنفذ الرئيس ميتران، ما فُهم من تهديده كتدخل عسكري، ولكن بتدخل آخر، فما وقع بعد ذلك من نزول الجيش وإلغاء نتائج الانتخابات وفتح معسكرات الصحراء الكبرى لأنصار الفيس، التي ذكّرت بمعتقلات الفرنسيين أيام الاستعمار، بدا أنه برنامج كاف ومقنع لـ فرنسا في مشروع "الدولة العميقة" ووأد الانتخابات.
دخلت الجزائر بعدها حربا أهلية دامية مروعة، وكان في حينها الدعم الأمني واللوجستي العسكري الفرنسي في قمته، لصالح "الدولة العميقة".
حينها كان التطرف الأيديولوجي موجودا في عناصر ممن شاركوا في حرب أفغانستان ضد الاحتلال الروسي، أو غيرهم ممن تم تعميده بعقائد التكفير لمدارس أهل السُنة خارج شيوخه، أو الرفض المطلق لكل اجتهاد مقاصدي من مصالح الشريعة، ولم يكن هذا التيار واسعا، لكن جَلَبته وتأثيره كبير، في ظل صمت بعض علماء صحوة الخليج عن بدايات غلوه الخطير.
وكان من الواضح أن المشروع الأمني الذي تدعمه فرنسا بقوة، يسعى إلى حركة تغيير تاريخي كبيرة، يؤدّب بها الشعب الجزائري، حتى لا يفكر أبدا باستئناف الحياة السياسية الديمقراطية، وخاصة عبر شراكة الإسلاميين.
في الأثناء برزت الجِيا (الجماعة الإسلامية المسلحة في الجزائر) وارتكبت أبشع المذابح، وكان واضحا عملية التفخيخ الجيني في فكرها، بل وتعاطي بعض مقاتليها عقاقير مخدرة.
ولستُ هنا أنقل عن مصادر كتب فرنسية وجزائرية، فقط، بل شهادات سمعتها مباشرة من شخصيات حملت السلاح معهم ثم انفضّت عنهم لتوحشهم، وقد اغتالت الجيا الكثير منهم، حيث كانت لا تقبل بمن يرى أن الصراع مع النظام لمظلمة سياسية، إنما كانت تراه حربا عقائدية عليه وعلى الشعب الذي اُعتبر في حينه ممتنعا عن تطبيق الشريعة حسب فهمهم، مع ملاحظة ما هي الشريعة التي يؤمنون بها، وما هي شريعة أهل السُنة المسلمين.
والثابت المهم في هذا الملف التاريخي الحسّاس، هو عمليات التفخيخ الجيني، والتي تورطت فيها المخابرات الفرنسية بصورة أو أخرى، مع بعض ضباط "الدولة العميقة"، ولسنا نعني ذلك التوسع في الاتهام الذي ينسب كل حوادث القتل والعنف لفرنسا و"الدولة العميقة"، إنما نقصد التدخل النوعي، وتوصيل عقاقير المخدرات لبعض أفراد الجيا، وتشجيعهم معنويا على تلك المذابح المروعة، في أوساط الشعب الجزائري أو الموظفين المدنيين، أو قتل الجنود في أي مكان ولو نقطة مرور.
وكان الهدف هو تحقيق المشروع المزدوج، من تصفية الوجود السياسي الإسلامي، وتأديب الشعب عن أي تفكير بقرار استئناف الحياة الدستورية، والحريات السياسية عبر عملية ديمقراطية حقيقية. لقد شاركت فرنسا الرسمية قطعا في فصول هذا التاريخ، والمسؤولية السياسية قائمة عليها بلا تردد، بغض النظر عن المسؤولية القانونية عن هيكل الجريمة بينها وبين من شارك من "الدولة العميقة".
كان هذا النمط من التفكير يتمدد في بعض القواعد الشبابية للإنقاذ، خلافا للرأي الإسلامي العام في الجزائر الذي يميل بطبعه للاعتدال وإن غلبت عليه حدة المزاج تجاه إرث استعماري فرنسي مارس الإرهاب بشراسة على شعب صلب لم يرضخ له، وكانت بلاط الشهداء هي طريق حريته من الاستعمار، لكن لم يستكمل التحرير السياسي للشعب من الحكم الشمولي، وهو ما ساهم في بقاء الجزائر متأثرة بهيمنة الصديق العدو، في ضفاف الأطلسي.
غير أن قواعد اللعبة السياسية كانت تُثبت أن الجناح السياسي المدني في الفيس (اختصار جبهة الإنقاذ)، قد اجتذب تياراته المحافظة والمتشددة إلى العملية السياسية، وبالتالي سيكفل هذا التداول، ومن أول تجربة للإنقاذ، تقييم قدرتها السياسية.
ومن المعلوم أن المشاعر ذاتها توسّعت في الشارع المصري بعد فوز تحالف الإسلاميين (الإخوان والسلفيين) في الانتخابات، وأعطت مؤشرا لتغيير جداول التصويت بصورة مؤثرة، في أول فرصة انتخابية ستُتاح، لكن التفجير الدموي الذي أسست له 30 يونيو، أجهض في 3 يوليو/تموز حلم 25 يناير المصري بكل تياراته.
في حين لم يُنفذ الرئيس ميتران، ما فُهم من تهديده كتدخل عسكري، ولكن بتدخل آخر، فما وقع بعد ذلك من نزول الجيش وإلغاء نتائج الانتخابات وفتح معسكرات الصحراء الكبرى لأنصار الفيس، التي ذكّرت بمعتقلات الفرنسيين أيام الاستعمار، بدا أنه برنامج كاف ومقنع لـ فرنسا في مشروع "الدولة العميقة" ووأد الانتخابات.
دخلت الجزائر بعدها حربا أهلية دامية مروعة، وكان في حينها الدعم الأمني واللوجستي العسكري الفرنسي في قمته، لصالح "الدولة العميقة".
حينها كان التطرف الأيديولوجي موجودا في عناصر ممن شاركوا في حرب أفغانستان ضد الاحتلال الروسي، أو غيرهم ممن تم تعميده بعقائد التكفير لمدارس أهل السُنة خارج شيوخه، أو الرفض المطلق لكل اجتهاد مقاصدي من مصالح الشريعة، ولم يكن هذا التيار واسعا، لكن جَلَبته وتأثيره كبير، في ظل صمت بعض علماء صحوة الخليج عن بدايات غلوه الخطير.
وكان من الواضح أن المشروع الأمني الذي تدعمه فرنسا بقوة، يسعى إلى حركة تغيير تاريخي كبيرة، يؤدّب بها الشعب الجزائري، حتى لا يفكر أبدا باستئناف الحياة السياسية الديمقراطية، وخاصة عبر شراكة الإسلاميين.
في الأثناء برزت الجِيا (الجماعة الإسلامية المسلحة في الجزائر) وارتكبت أبشع المذابح، وكان واضحا عملية التفخيخ الجيني في فكرها، بل وتعاطي بعض مقاتليها عقاقير مخدرة.
ولستُ هنا أنقل عن مصادر كتب فرنسية وجزائرية، فقط، بل شهادات سمعتها مباشرة من شخصيات حملت السلاح معهم ثم انفضّت عنهم لتوحشهم، وقد اغتالت الجيا الكثير منهم، حيث كانت لا تقبل بمن يرى أن الصراع مع النظام لمظلمة سياسية، إنما كانت تراه حربا عقائدية عليه وعلى الشعب الذي اُعتبر في حينه ممتنعا عن تطبيق الشريعة حسب فهمهم، مع ملاحظة ما هي الشريعة التي يؤمنون بها، وما هي شريعة أهل السُنة المسلمين.
والثابت المهم في هذا الملف التاريخي الحسّاس، هو عمليات التفخيخ الجيني، والتي تورطت فيها المخابرات الفرنسية بصورة أو أخرى، مع بعض ضباط "الدولة العميقة"، ولسنا نعني ذلك التوسع في الاتهام الذي ينسب كل حوادث القتل والعنف لفرنسا و"الدولة العميقة"، إنما نقصد التدخل النوعي، وتوصيل عقاقير المخدرات لبعض أفراد الجيا، وتشجيعهم معنويا على تلك المذابح المروعة، في أوساط الشعب الجزائري أو الموظفين المدنيين، أو قتل الجنود في أي مكان ولو نقطة مرور.
وكان الهدف هو تحقيق المشروع المزدوج، من تصفية الوجود السياسي الإسلامي، وتأديب الشعب عن أي تفكير بقرار استئناف الحياة الدستورية، والحريات السياسية عبر عملية ديمقراطية حقيقية. لقد شاركت فرنسا الرسمية قطعا في فصول هذا التاريخ، والمسؤولية السياسية قائمة عليها بلا تردد، بغض النظر عن المسؤولية القانونية عن هيكل الجريمة بينها وبين من شارك من "الدولة العميقة".
"الثابت أن المخابرات الفرنسية تورطت بصورة أو أخرى مع بعض ضباط الدولة العميقة، بعد نجاح جبهة الإنقاذ الجزائرية، ولسنا نعني ذلك التوسع في الاتهام الذي ينسب كل حوادث القتل والعنف لفرنسا والدولة العميقة، إنما نقصد التدخل النوعي"
هذا التفخيخ الجيني لتشجيع التوحش، كان مقدمة مهمة لصناعة داعش (تنظيم الدولة الإسلامية) العالمية، وثلاثة عناصر مهمة تصنع داعش وأجواءها، الأول خلق بيئة حروب استبدادية كبرى ضد حريات الشعوب واستقلالها بعدوان غربي مباشر، أو غير مباشر، وقد كان أكبره غزو العراق، والتآمر الغربي معإيران وموسكو ضد الثورة السورية لإعاقتها لمصلحة أمن تل أبيب وحديقة الغرب الخلفية، والثاني إرث المستبدين في الوطن العربي على الشباب، والثالث وجود عقيدة غلو أصلية، تمكنت من إخضاع قطاعات ومناطق في العالم السُني، وحيّدت مدرسته الكبرى، العلمية والفكرية التجديدية.
وكان من الواضح أن داعش تأثرت بهذه العناصر، وتعرضت لتدخلات أجنبية واسعة من كثرة تقاطعات المخابرات عليها، ومن انفجار الفكرة التكفيرية وانشطارها داخلها، لتضرب من حولها، فأضحت حالة متمردة.
لكن لن تستمر، سواء عبر تحالف قرر كل من أطرافه التضحية بمصالحه مع داعش لصعوبة ضبطه، أو لانهيار داخلي بعد تأزمات ميدانية وفكرية، ولكن الكارثة أن استخدام داعش ضد استقلال الشرق الإسلامي ونهضته، لن يتوقف بالضرورة بسقوطه، ولكن قد ينشأ من حطامه كيان آخر من التوحش المجنون.
إن هذا التفخيخ الذي شاركت فيه فرنسا يمكن جدا قراءته بوضوح في بصمات تفجيرات باريس التي استهدفت أبرياء غربيين.
نحن هنا نتحدث عن عملية استقطاب سهلة التكاليف، في ظل حملة عنيفة من الإعلام الغربي والمؤسسة السياسية المدنية ضد المسلمين المستغربين وقضاياهم، ولنا أن نتصور، كيف كان وجدان شعوب الشرق وجالياتهم، لو كانوا يراقبون صعود بلدانهم السياسي ونهضتها الإنسانية، هل سيوجد بينهم من يفجع باريس في دماء أبريائها كما جرى؟
وكان من الواضح أن داعش تأثرت بهذه العناصر، وتعرضت لتدخلات أجنبية واسعة من كثرة تقاطعات المخابرات عليها، ومن انفجار الفكرة التكفيرية وانشطارها داخلها، لتضرب من حولها، فأضحت حالة متمردة.
لكن لن تستمر، سواء عبر تحالف قرر كل من أطرافه التضحية بمصالحه مع داعش لصعوبة ضبطه، أو لانهيار داخلي بعد تأزمات ميدانية وفكرية، ولكن الكارثة أن استخدام داعش ضد استقلال الشرق الإسلامي ونهضته، لن يتوقف بالضرورة بسقوطه، ولكن قد ينشأ من حطامه كيان آخر من التوحش المجنون.
إن هذا التفخيخ الذي شاركت فيه فرنسا يمكن جدا قراءته بوضوح في بصمات تفجيرات باريس التي استهدفت أبرياء غربيين.
نحن هنا نتحدث عن عملية استقطاب سهلة التكاليف، في ظل حملة عنيفة من الإعلام الغربي والمؤسسة السياسية المدنية ضد المسلمين المستغربين وقضاياهم، ولنا أن نتصور، كيف كان وجدان شعوب الشرق وجالياتهم، لو كانوا يراقبون صعود بلدانهم السياسي ونهضتها الإنسانية، هل سيوجد بينهم من يفجع باريس في دماء أبريائها كما جرى؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق