سيد قطب
كفاح الجزائر في سبيل البقاء، كفاحها في أن تظل عربية وأن تظل مسلمة، هذا الكفاح له في نفسي دلالة خاصة قد لا تخلص من كفاح أي بلد آخر من البلاد العربية أو البلاد الإسلام.
لقد أريد بالجزائر أن تكون أندلسا جديدة . أريد بها أن تنسلخ من جسم الوطن العربي الإسلامي، وأن تبتلعها الصليبية الأوروبية الجديدة، و مضى أكثر من قرن و المحاولات الجبارة لا تني لحظة و لا تكف، و استخدمت كل الوسائل التي لا تعرف البشرية أقسى منها و لا أمكر منها و لا أفتك منها .
و لكن الجزائر بدلا من أن تموت انتفضت حية بدلا من أن تنهار ، تماسكت و تجمعت و أعلنت عن وجودها بدلا من أن تبتلعها الصليبية ، و لم يعرف بلد آخر في الشرق أو في الغرب ما عرفته الجزائر من أساليب الصليبية حتى الأندلس و حتى فلسطين لم تعرفا هذه الأساليب ، لقد امتدت هذه الأساليب إلى تفتيت التماسك العنصري و العائلي ، و امتدت إلى تخليط الأنساب و تحطيم الأخلاق، امتدت إلى إزالة الصبغة العربية و الصبغة الدينية ، و تم هذا في غفلة من العالم الإسلامي و الأمة العربية في القرن الماضي، و كانت الجزائر وحدها في الميدان فلم يكن بجوارها أحد كما هو الحال الآن .
لهذا كله تخلص لي من كفاح الجزائر دلالة لا تخلص لي من كفاح أي بلد آخر، دلالة مطمئنة تدعو إلى الثقة و التفاؤل.
إن هذا العالم الإسلامي لن يموت و لن يفنى، و لو كان يراد له الموت لمات ، و لو كان كتب له الفناء لفني ..
إن المحنة التي عانها في الجزائر لن يعاني مثلها اليوم لأن الاستعمار لا يملك مثلها اليوم و بعد اليوم ، و لأن الأساليب التي جربها في الجزائر لا يعرف العالم لها نظيرا .
إن في الوطن الإسلامي حيوية كامنة لا يغلبها شيء .. هذا هو الخاطر الذي يخالج نفسي كلما نظرت في كفاح الجزائر و نظرت في تاريخ هذا الكفاح .. إن العالم الإسلامي لا يكاد يعرف شيئا عن هذا الكفاح !
إن تاريخه لم يكتب بعد بالتفصيل و لم تعرضه أقلام أمينة نزيهة عالمة ببواطن الأمور، و أنا أقترح على "جمعية علماء الجزائر" أن تعرض تاريخ هذا الكفاح على الناس باللغة العربية و بجميع اللغات ، إن هذا التاريخ سيكون له وقع عظيم ، لأنه سيطلع اليائسين و المترددين و الضعاف في العالم الإسلامي كله على أن الحيوية الكامنة في جسم الوطن الإسلامي لا غالب لها ، و أن هذا الجسم يحمل بذرة الحياة التي لا تموت أبدا ، إنه سيد المكافحين في الأرض كلها بدفعة قوية من الرجاء الحار في الخلاص ، و نحن محتاجون إلى هذه الدفعة القوية في معاركنا الفاصلة التي ستشب يوما في أجزاء العالم الإسلامي .
لقد عاش الاستعمار بعد أوانه ، عاش أكثر من عمره الطبيعي ، عاش ضد طبائع الأشياء، و لم يعد له بد من أن يصطدم بالحياة و أن يلتقي في معركة فاصلة مع الزمن و الحياة و الناس ، و هيهات أن يبقى نظام يصطدم بالزمن و الحياة و الناس .
لذلك كله أحب أن يعرض كفاح الجزائر على أنظار البشرية جمعاء، و أن تعرض آلام الجزائر على المكافحين الذين تصب عليهم الآلام اليوم لكي يدرك الجميع أن آلام الأرض كلها لا تقتل أمة تريد الحياة ، و لا تعوق شعبا يعتزم الكفاح .
ثم لكي يعرف المكافحون في العالم الإسلامي حقيقة العنصر الذي يحميهم من الانهيار ، و يمسك بهم من التفكك و التفتت ، و سيجدون هذا العنصر بارزا في كفاح الجزائر، إنه العقيدة و اللغة التي نزلت بها هذه العقيدة .
و لقد عرفت جمعية علماء الجزائر كيف توثق هذا الحبل ، و كيف ترفع ذلك المشعل ، فعرفت كيف تجمع الشاردين ، و كيف تؤمّم أمامهم الطريق، و كيف تخلق ذلك البعث الذي لن تموت الجزائر بعده و لن تهين و لن تستسلم ، و العالم كله قد صحا من سباته العميق .
و إنني لأكتفي اليوم بهذه الكلمات القلائل تحية لجمعية علماء الجزائر و شيخها الجليل الذي يجاورنا اليوم ، فيبعث فينا من روحه شعاعا حارا، و يشعرنا بأن في العالم الإسلامي رجالا .. رجالا من طراز فريد، و لن يموت هذا العالم و هو يبعث من أعماقه بمثل هؤلاء الرجال .
جريدة "البصائر"، العدد: 214، بتاريخ 23 يناير1953
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق