وائل قنديل
هناك مفارقة مدهشة لدى أصحاب "بوتيك الاصطفاف" تتجلى في محاولتهم إسباغ شيء من الأخلاقية أو المعقولية، على قفزة مجنونة اسمها "30 يونيو/ حزيران 2013"، لا ينكر إلا أعمى، أو تاجر سياسة، أنها كانت السبب الأول والرئيسي في الكوارث، التي تتخبط فيها مصر الآن.
يدهشك في هؤلاء الذين يتعاطون مع استعادة حالة ثورية، باعتبارها "مقاولة"، أنهم يظنون أن من شأن الفصل بين الثلاثين من يونيو/حزيران والثالث من يوليو/تموز أن يساعد في صناعة توحد، أو اصطفاف ثوري، على الرغم من أن كثيرين ممن تورطوا في تلك الخطيئة الإنسانية والسياسية، لا يجدون غضاضة في الاعتراف بأنهم خُدِعوا، وانزلقوا إلى هذا المستنقع، وأدركوا فداحة الخسارة، بعد عامين ونصف العام من الدماء والتردّي في كل شيء.
في الثورات، لا تصلح المساومات والمقايضات قواعد حاكمة لحراكٍ، هو بالأساس ينطلق من منظومة أخلاقية وقيمية، تعبر عن نفسها بوضوح، وتنحاز إلى المبادئ العامة، المطلقة، وليس إلى المصالح، النسبية.
ما تعيشه مصر الآن، وتمتد آثاره السلبية (بتعبير شديد التهذيب) إلى محيطها العربي والإقليمي، ناتج عن تلك اللحظة التي نجحت فيها مجموعة من المخادعين، بلغة كارل ماركس، وهو يصف لحظة مماثلة في مسيرة الثورة الفرنسية، في النصب على الجماهير، واستدعائهم ليعبروا فوق إراداتهم لقتل ثورتهم، وديمقراطيتهم التي اكتسبوا بشائرها في يناير/ كانون الثاني 2012.
يقول ماركس في هذا "ولا يكفي القول، كما يفعل الفرنسيون، إن أمتهم أُخذت على حين غرة. فإن الأمة والمرأة لا تغتفر لهما تلك اللحظة التي تفقدان فيها الحذر، ويتمكّن أول مغامر يمر بهما من أن ينتهكهما".
وبالطبع، لا أحد في مصر يقبل بهذا النوع من الصرامة والتشدد الذي يعتمده كارل ماركس، للتعامل، حتى أولئك اليساريون، الدجالون، الذين تحولوا من المعارضة السياسية، إلى احتراف تدليك ذات الجنرال المتضخمة، فالكل أخطأ والكل خدع، باستثناء تلك النخب الشريرة التي قادت عملية اصطياد الجماهير بالأكاذيب، وارتضت أن تكون أدوات الجنرالات في السيطرة والتحكم في وعي الجموع الساخطة على أوضاع اقتصادية وأمنية، تدهورت بفعل فاعل، هو نفسه المستفيد من الانقلاب.
يجدر، هنا، أن ننشط ذاكرة الباعة الجائلين في دروب معارضة الانقلاب، ممن يقولون إن الثلاثين من يونيو شيء، والثالث من يوليو شيء آخر، دعك من استدعاء الفنانات والفنانين والإعلاميات والإعلاميين، والسياسيات والسياسيين، إلى معسكرات الجيش، لشحنهم بخطاب التحضير للانقضاض على حكم الرئيس المنتخب، وتوقف عند ما أعلنته الصحف قبل أسبوع من التنفيذ، حين نشرت أن قادة الجيش حسموا أمرهم، وقرروا الانقلاب في ما عرف بـ "هيكلة" النظام بعد عزل محمد مرسي، الأمر الذي ينفي تماما أن قرار وزير الدفاع في الثالث من يوليو/ تموز كان نتيجة ما جرى قبل ذلك بثلاثة أيام، وأعني مظاهرات 30 يونيو/حزيران الفاخرة الممنهجة المهيكلة.
ليس صحيحاً، إذن، أن الجماهير هي من استدعت عبد الفتاح السيسي للانقلاب على الرئيس مرسي، بل إن الجنرال هو من خطط عملية حشد الجماهير، مستعملاً تلك النخب الانتهازية الأجيرة، لكي يدهن انقلابه بطلاء مدني أبيض، ليكون يونيو 2013 تاريخ وفاة ثورة يناير ومواراتها الثرى.
لذا، يصبح أي حديث عن اصطفاف ثوري جديد، لا يتضمن الاعتراف بخطأ السقوط في "كمين الثورة المضادة" لغواً لا مردود له.
ومرّة أخرى، فإن الفصل بين الثلاثين من يونيو(مقدمة الانقلاب)، والثالث من يوليو (مؤخرته)، لا يختلف كثيراً عن الفصل بين ثورة يناير وشرعية الرئيس محمد مرسي.
بحثت "يناير" عن ديمقراطية، وعثرت عليها وطبقتها، فأتت برئيس منتخب، "ويونيو" جاء بجنرال دموي عبر إلى الحكم فوق جماجم كثيرة.
وعلى هذا، لا يستقيم أن تعلن الخروج من مؤخرة الانقلاب، وتتمسك بمقدمته، ولا يتصور ، منطقا، أن شخصاً لا يزال يضع قدماً في يونيو، يمكن أن يكون مؤهلاً لأن يتم دمجه في مشروع اصطفاف ثوري لاستعادة يناير، إذ كيف تنادي بديمقراطيةٍ أنت نفسك قبلت أن يستعملوك ويمتطوك، من أجل قتلها ووأد مولودها؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق