قال أبو حيان التوحيدي في كتابه "البصائر والذخائر": "حبس محمد بن سليمان رجلاً من المرجفين ثم أخرجه وأمر بضربه، فضحك الجلاد، فقال له محمد: ما يضحكك؟ قال: أصلح الله الأمير، زعم أنك لم تأمر بضربه حتى أتاك كتاب العزل، فقال: خلّ عنه، فلو ترك الإرجاف يوماً لتركه اليوم".
هو الإرجاف وبث الإشاعات المحبطة، إحدى أدوات حرب الشائعات، يتم ترويجها بغلاف النصح، فيتناقلها البسطاء، وتفت في عضد المجتمع.
أما من لبيب يُحدثنا عن سر تلك الحملة الشعواء التي يطلقها الإعلام الغربي على المملكة السعودية؟، فلم نر المملكة يوما تتعرض لذلك السخط الغربي والتشويه الإعلامي المتعمد لها في دول أمريكا وأوروبا، بمثل ما تواجه اليوم.
ويحدثنا عن مغردين من أمتنا مدعومين استخباراتيا لا همَّ لهم سوى النيل من حكومة بلاد الحرمين، يغررون الناس وُيلبِّسون عليهم بِطُعْمٍ من بعض الأخبار الصحيحة، عملُهم كعمل الكُهَّان، يبنون على كلمة صدق مئات الأكاذيب.
السعودية يمارس ضدها اليوم حرب الإرجاف، لبث الوهن في نفوس الملتفين حولها، والمؤمنين بأن ثمة تحول إيجابي قد لاحت بشائره.
في الوقت الذي يتم ترتيب البيت السعودي، ويُؤكد فيه على الانطلاق من الهوية الإسلامية، وفي ذروة المواجهة مع حلف إيران في بقعتي اليمن وسوريا، وفي غمرة البِشْر بالتحالف السعودي القطري التركي، يخرج المُخذِّلون المرجفون ليؤكدوا أن ثمة ضغوط تُمارس على السعودية، وإلى هذا الحد يشترك المخلصون والمغرضون، فبالفعل هناك الكثير من الضغوط تمارس على المملكة، غير أن المرجفين يؤكدون أن الأيام المقبلة سوف تشهد استجابة سعودية لهذه الضغوط، والتراجع في مواقفها بجميع الملفات الساخنة، أبرزها: الملف السوري واليمني.
استحضرت ساعتئذٍ ما خطَّه قلمٌ عربيٌ مرموق، علَّق على زيارة محمد بن سلمان لروسيا، بأنه خلال تلك الزيارة تم الاتفاق على إدراج الأسد في تحالف لمواجهة عاجلة في سوريا ضد داعش، وكتبتُ حينها ردا يستبعد ذلك التأكيد غير المنطقي، ولم تُخيِّب السعودية ظني وظن الملايين غيري في ثبات موقفها الرافض لبقاء الأسد.
وها هم المرجفون يواصلون بث الفتن وتوهين العزائم والتشكيك في القيادة السعودية، تحركهم أمنياتهم في عرقلة المسيرة.
لقد عاد الإرجاف من عهده الأول في المدينة المنورة أيام جيل الصحابة، لإحداث الاضطراب، والتشكيك في قدرة الدولة على المواجهة، فنزل الوعيد القرآني: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا } [الأحزاب: 60].
هؤلاء المرجفون يقتاتون على بث القلق، حالهم كمن قال فيهم ابن حمدون في التذكرة: "خرج جماعة إلى سلطان يتطلبون شغلاً فلم يجدوا، فقال بعضهم: تَقَوَّتوا الإرجاف وانتظروا الدول".
الإرجاف الذي سماه الثعالبي بـ "زند الفتنة" تكمن خطورته في إشاعة مواد القلق والاضطراب دون تثبت، حتى تجد مكانها في ذهن المجتمع، ويتعامل معها باعتبارها حقيقة.
وفي ذلك يقول الزمخشري في ربيع الأبرار: "شأن الإرجاف أن يختلف ناس ويصدّق آخرون، غير باحثين عن منبعه، ولا فاحصين عن مطلعه".
كم تعتريني الدهشة وأنا أرى البعض ينظر إلى السعودية على أنها سبب كوارث الأمة الإسلامية، لا يسلطون الضوء إلا على سقطات شباب آل سعود، مع أننا لم نطالب أحدا بالنظر إليه على أنهم ملائكة يمشون على الأرض.
بعضهم لم يجد في خطاب الملك سلمان للمثقفين شيئا ذا بال، سوى أن من بين الحضور ممثلي روتانا ومذيعي إم بي سي، وتناسى مضمون الخطاب الذي يُعدُّ رسالة إلى كل الإعلاميين، بأن القيادة تصر على وضوح الهوية، وانطلاقها من الكتاب والسنة، وأن ذلك دستورٌ لا يسوغ الجدال فيه والخروج عنه.
أصبح نقدهم السعودية غاية في حد ذاته، لا يفرقون بين عهد وعهد، ولا بين رمز ورمز، ولا بين حالة وأخرى، إذا ما حدّثْتهم عن إنجازات شككوا في النيات، وإن أبرزتَ لهم عشرة جوانب من الحسن أرادوا نسفها بجانب من السوء، قِسْمَتُهم ضِيزَى، وميزانهم مخْتل، والويل لمن يخالفهم، حينئذٍ يكون جاسوسا مأجورا للحكام، ومرتزقا مصعرَ الخد للأرز السعودي.
فماذا عساهم أن يفعلوا - والمسيرة تستمر - سوى الإرجاف والحديث عن تراجع مرتقب وانتكاسة تشق الطريق، ليهدموا الآمال المعلقة في السعودية وحلفائها الشرفاء بعد الله تعالى.
يا معشر المرجفين، إن السعودية قد بدأت عهدا جديدا ولن تتراجع، ولا يسوغ لها التراجع، ولن نسمي الإجراءات التكتيكية والتصريحات الدبلوماسية الخاوية من الحزم تراجعا، ولن نسمي تغيير المواقف دون المبادئ تراجعا وانكفاءً وخنوعا وردة.
ولما كانت الُبشرى تطلق على الخبر السار والسيء معا، كقول الرحمن {فبشرهم بعذاب أليم}، فإنا نبشركم يا معشر المرجفين بأن السعودية لن تتراجع، ليس على أساس أحلام وردية وأمنيات عَجَزة، وإنما بيننا وبينكم الواقع والمعطيات.
السعودية لن تتراجع وهي تعلم يقينا أن حل الأزمة اليمنية وإعادة الشرعية ووقف النفوذ الإيراني على أبواب الخليج عبر الحوثيين، هو من صميم الحفاظ على أمنها القومي.
وانطلاقا من ذات المبدأ، لن تتخلى السعودية عن موقفها الرافض لبقاء الأسد وضياع سوريا ودخولها جوف إيران التي تسعى للانطلاق من قاعدة سوريا للسيطرة على دول المنطقة.
السعودية تسعى لإنهاء الأزمتين عبر حل سياسي نعم، وتعمل على ذلك وفق رؤيتها سالفة الذكر، وفي المقابل تدعم مسارها السياسي بالقوة المشروعة، بالعمليات العسكرية المباشرة في اليمن، وبإمداد الثوار وفصائل الإسلام المعتدلة في سوريا.
أبشركم يا معشر المرجفين، بأن السعودية لا تقف وحدها في المشهد، فدولة قطر معها على نفس الخط، وتتوافق معها في الرؤية تجاه الملفات الكبرى في المنطقة.
وأبشركم يا معشر المرجفين بأن المملكة سيزيد من قوتها انفراد حزب العدالة والتنمية بتشكيل الحكومة التركية بعد ملحمة الانتخابات الأخيرة، وهو الأمر الذي سيدعم قوة التحالف الثلاثي ضد الحلف الإيراني الروسي الأسدي.
وأبشركم يا معشر المرجفين بأن السعودية اليوم استوعبت فصائل التيار الإسلامي المعتدل وعلى رأسها الإخوان، وفتحت صفحة جديدة مع رموزه، وهو ما يعني تأييد شرائح كبيرة في مختلف الدول الإسلامية للقيادة السعودية.
وكما لم تخذلني السعودية يوم أن توقَفتْ عاصفة الحزم، ووقفتُ في العراء وحدي أقول إن العمليات العسكرية ستستمر، وقوبِلت رؤيتي بالسخرية والنقد والشتائم، فلن تخذلني ولن تخذل الملايين في أن تكمل مسيرة العزة التي ابتدأتها مع حلفائها الشرفاء قطر وتركيا، وإنَّ غدا لناظره قريب، ونقول لكم في النهاية: لن تقتلوا آمالنا، ولن تفسدوا علينا فرحتنا، بل موتوا بغيظكم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق