الأحد، 10 أبريل 2016

"ما مرَّ عام والعراق ليس فيه جوع"..

"ما مرَّ عام والعراق ليس فيه جوع"..
«ما مرَّ عامٌ والعراق ليس فيه جوعْ»..

رأيت صورة فتى عراقي من أهالي الفلوجة لم يتجاوز الخامسة عشرة سنة قد مات جوعا، وأعادت الشاشة صورته أكثر من مرة وقد تسمر على ظهره ونظره شاخص للأعلى، وتذكرت فورا بدر شاكر السياب في قصيدته المشهورة «ما مرَّ عامٌ والعراق ليس فيه جوعْ»، ولعله يقصد جوعه المعنوي بسبب القلاقل والثورات والمغامرات السياسية وحاجة الإنسان العراقي الى الحرية والاستقلال الحقيقيين، ولكن أن يتطور الأمر إلى جوع حقيقي في بلاد النخيل والأنهار، فذلك شيء مرعب صدقا..
كيف يموت الناس جوعا في الفلوجة ومضايا، وقد أطلق المؤرخون على العراق وسوريا مسمى الهلال الخصيب، وأرض السواد، فغاباته الخضراء تلوح سوداء من بعيد، وبخاصة أنه المركز التاريخي الذي انطلقت منه ثورة البشرية الأولى «الثورة الزراعية»، وعلم إنسانه الحجري البشرية القوانين والموسيقى والأبجدية والزراعة وعليها قامت حضارات الأمم، ذلك السواد الذي فتن الشعراء العرب وسلب لب الفلاسفة..
وليت جريرا وابن الجهم وشوقي والجواهري يعلمون أن ما حل ببردى بالأمس حل أيضا ليلة البارحة بدجلة، ولم يعد ذلك البريق، الذي طلبوا الأمان منهن في تلك العيون العراقية بين الرصافة والجسر، ووراء ذلك السواد الكثيف لأنها تحولت إلى عيون مملوءة بالرعب والخوف والموت ويغشاها الذبول والبكاء والصراخ وهي تشحذ الحياة من جلادين ومرتزقة وشذاذ الآفاق، فالأحداث تثبت أن الغرق يكون أيضا بالحروب، والأيام تثبت أن الغدر تجاوز مهالك البحار إلى مجموعة الغوص كلها التي تركت القراصنة يخرقون السفينة ولم تبال، فغرق الجميع، وطارت سنابل القمح وتلاشت رائحة الأرز العراقي (التمن)، وجف الفرات ودجلة، ومات السمك وغاب المسقوف ورغيفه الأشقر، ويبس السواد وأصبح هشيما تذروه الرياح في صورة تجاوزت حرمان جياع العالم وهم يطلعون كل عام على ما تعودت على نشره مجلة فوربس من قوائم بأسماء أثرى أثرياء العالم باللون الأحمر أو الأخضر…
وليت العالم يدرك خطورة رؤية ضلوع تكاد تخرج من قفصها الصدري ولا يحرك ساكنا ولا يتدخل لإنقاذ نفسه وأخلاقه وقيمه ومصداقيته أمام التاريخ ومسؤولياته وأمام الشرفاء في هذا العالم قبل كل شيء، لأن الصور التي نشاهدها أكثر رعبا من تصوير فنان بوستر ذات مساء لفم فاغر نسجت العنكبوت عليه خيوطها، وأقسى إيلاما من صورة ذلك الافريقي الذي قيل إن آخر وجبة تناولها قبل الموت جوعاً هي ما تبقى من أسمال كانت تغطي عورته، والكارثة أن الحس الإنساني غائب تماما، وهو يراقب وسائل الإعلام تتناقلها كأروع صورة في ذلك العام، وأكاد أجزم أن أكثر صور الإنسانية رعبا أيضا ما وثقته الكاميرات والفضائيات ووسائل الاتصال صورة بعض أطفالنا وهم يلتقطون فتات الخبز من الأرض وصورة بعض المهاجرين في طوابير على ظهور أمهاتهم بلا حليب ولا ملابس ولا أمان.
.. والله من وراء القصد

 أكاديمي سعودي

د. عبد الله بن ثاني

abnthani@hotmail.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق