الثلاثاء، 20 سبتمبر 2016

ليبيا والتدمير على الطريقة العراقية

ليبيا والتدمير على الطريقة العراقية


 شريف عبدالعزيز


" لا أحد يعرف شيئا "

هذا هو لسان حال المتابعين للشأن الليبي اليوم بسبب تعقد المشهد والتجاذب السياسي والعسكري من أطراف متعددة ، وتداخلات سياسية إقليمية ودولية ومحلية جعلت المتابع يشاهد وهو مرتبك ، مشهد يكتنفه الغموض والتداخل والضبابية، ولكن إشاراته وأطرافه تنبي عن مغزاه أكثر من زخرف عباراته .

ليبيا وصراع الاستقواء الخارجي

في معركة عسكرية على الطراز الهوليودي اسماً وفعلاً ؛ «البرق الخاطف» قامت الطائرات والقوّات البرّية المحسوبة على الجنرال المنشق والمتمرد خليفة حفتر بالاستيلاء على ثلاثة موانئ نفطية رئيسية في ليبيا هي السردة وراس لانوف والزويتينة أو ما يسمى بالهلال النفطي متغلّبة على قوّات حرس الموانئ بقيادة أمير الحرب الليبي المثير للجدل إبراهيم الجضران الذي اختفى مع الدقائق الأولى للهجوم .

تأتي هذه النقلة العسكرية الإستراتيجية بعد خطوة سياسية سبقتها وسمح فيها الجنرال الطموح لبرلمان طبرق بالاجتماع بعد ستة أشهر من منعه أعضائه من اللقاء للتصديق على الحكومة في طرابلس، وذلك في جلسة تشبه بدورها عملية «البرق الخاطف» المذكورة قام فيها البرلمان المغلوب على أمره بحجب الثقة عن حكومة الوفاق.

جاءت الخطوتان الخطيرتان، سياسياً وعسكرياً، في الوقت الذي تنهمك فيه قوات حكومة الوفاق الوطني بتطهير الأجزاء الأخيرة من مدينة سرت من تنظيم «الدولة الإسلامية» وهو ما كلف قوّاتها مئات القتلى والجرحى، كما جاء في الوقت الذي تعاني فيه هذه الحكومة من ضيق ماليّ يجعلها غير قادرة على تمويل عمل وزاراتها ومهامها التنفيذية، وكان التمويل ينتظر تأمين تصدير شحنات النفط الليبي من الموانئ التي قام الجنرال بالاستيلاء عليها، وبذلك حرم الحكومة، نظريّاً، من شرعيتها النيابية، وعمليّاً، من مواردها المالية، وذلك تحت أبصار ما يسمى المجتمع الدولي والدول الغربيّة التي ورّطت حكومة الوفاق بنزاع مرير مع «الدولة الإسلامية» ولكنّها تركت الباب مشرعاً لحفتر لكسر شرعية هذه الحكومة نفسها وللاستيلاء على الثروة الريعية الأساسية التي تقوم عليها الدولة الليبية: النفط.
المثير أن برق حفتر الخاطف لم يكن ليبيا محضاً إنما جاء أشبه ما يكون بعملية عسكرية متعددة الجنسيات ، اشترك فيه حلفاء دوليون وإقليميون بإمداد جوى مكثف ، مما حدا بالمجلس الرئاسي الليبي بقيادة فايز السراج لإصدار بيان شديد اللهجة جاء فيه : "تم من قبل مجموعات مسلحة أجنبية وقوات خارجة عن الشرعية وغيرهم من المرتزقة المأجورين وهو ما يعد اعتداء صارخاً و مساساً مشيناً بالسيادة الوطنية وعدواناً صريحاً على مكتسبات الشعب الليبي الكريم".
ودعا البيان أيضا "كافة القوى الوطنية المخلصة الداعمة لمسيرة التوافق الوطني إلى الوقوف صفاً واحداً في مواجهة هذه المحاولات العبثية اليائسة التي تسعى حثيثاً إلى تقويض التوافق الوطني وفرض سياسة الأمر الواقع والتي لن تقوى على مواجهة الإرادة الوطنية التي اختارت الحوار والتوافق سبيلاً لإنقاذ الوطن من براثن الفوضى والإرهاب والاستبداد" . كما لم ينس البيان مناشدة القوى الخارجية التي أتت به في الأساس ودعمت في قابلة طموحات حفتر ، دعاها لاتخاذ موقف صارم من عدوان حفتر المفاجئ !!
بالقطع منافسو حفتر يعرفون قبل غيرهم أن حفتر ما كان ليحرّك قوّاته ويشن «برقه الخاطف» لولا قرار إقليمي يغطّيه سياسياً ويؤمن الإمدادات اللوجستية والعسكرية لقوّاته . مما يعني أن جميع الفرقاء الليبيين يبحثون عن الاستقواء بالخارج من أجل الحفاظ على مكاسبهم السياسية والعسكرية ويبقى في النهاية أن الضحية هو الوطن والمواطن الليبي .

تحركات غير مفهومة

لم يكد حفتر يستقر ويفرح بانتصاره العسكري حتى جاءته الأوامر العليا من داعميه ومموليه الإقليميين والدوليين بضرورة تسليم الموانئ النفطية لحكومة السراج والمجلس الرئاسي ، ولم يتردد حفتر أو يتمنع ولو لساعة من الوقت ، وسرعان ما أعلن انتهاء برقه الخاطف وتسليم الموانئ لحكومة طرابلس التي سحب مجلس طبرق منها الثقة من أيام أيضا ، في تحركات لا يفهمها إلا من شاهد وقارن وتابع المؤامرات الأمريكية والأممية حيال المنطقة العربية منذ سنة 1991 حتى اليوم .

فقد نقلت وكالة أنباء رويترز أمس الخميس عن المؤسسة الوطنية الليبية للنفط أنّ الأخيرة سوف ترفع حالة «القوة القاهرة» عن ثلاثة موانئ سيطرت عليها قوات الجنرال خليفة حفتر، بعد أن أقرّت المؤسسة استلام المنشآت النفطية من قوات حفتر ، بهدف الشروع في استئناف تصدير الخام. وبالفعل رست أول ناقلة نفطية عملاقة في ميناء راس لانوف لأول مرة منذ استيلاء إبراهيم الجضران الطامح لاستقلال إقليم برقة عن ليبيا عام 2014 على هذه الموانئ ، كما رست ناقلة ثانية في ميناء البريقة. 
وصرّح مصطفى صنع الله، رئيس المؤسسة النفطية الليبية ، أن قرار استئناف التصدير قد اتُخذ بناء على تعليمات من الحكومة التي تدعمها الأمم المتحدة في طرابلس والبرلمان المنعقد في الشرق!!
فما الذي دفع القوى السياسية والعسكرية المتنافسة شرقاً وغرباً للاتفاق والسلام في هذا الزمان القياسي ولم يمض أسبوع واحد على القصف السياسي والإعلامي والعسكري المتبادل بين الجانبين؟!

كلمة السر في النفط ، فجميع الخلافات والصراعات قابلة للتسوية والطي والمسامحة ، إذا التقت المصالح وتصافحت المنافع .

فما من شك أن التحكم في النفط، الذي يشكل المصدر الأساسي للدخل، هدف استراتيجي لطرفي الصراع، فالنفط ورقة مهمة جدا في التفاوض حول تركيبة الحكومة التي من المنتظر أن يشكلها الرئاسي، وقد أكدت مصادر مقربة من دوائر صناعة القرار أن حفتر يقبل بالانضمام إلى الاتفاق السياسي على أن يسلم له ملفي الدفاع والداخلية، وستساعده ورقة النفط على فرض شروطه. ولا شك أن تراجع حفتر السريع وتسليمه الموانئ النفطية لحكومة طرابلس ـ رغم عدم اعترافه بشرعيتها منذ يومين فقط ـ قد اعتبر من وجهة نظر الكثيرين ـ الذين يجهلون حقيقة حفتر وداعميه ـ إعلاء للمصلحة القومية للبلاد ، فعودة تصدير النفط بانتظام ستؤدي إلى التخفيف بشكل كبير من الأزمة الاقتصادية والمالية الحادة وتحسن من أوضاع عيش الليبيين بتراجع سعر الدولار أمام الدينار، وبالتالي مزيد من التأييد للجيش التابع للبرلمان ولقائده العام، خصوصا إذا تعهدت الأطراف الدولية لحفتر بالدعم في المفاوضات إذا انصاع لموقفها .

قد يري البعض أن سيناريو تسليم المنشآت النفطية ينسجم مع المطلب المحلي لعودة تدفق النفط لوقف التردي الكبير في الوضع الاقتصادي والمعيشي لليبيين، ومع مطلب القوى الدولية الذي يريد نجاح اتفاق الصخيرات ومن أهم أسباب نجاحه هو توفر الموارد المالية. وأن حفتر قبل بالانضمام للاتفاق السياسي نظير دخوله في المعادلة السياسية بعد أن كان على وشك الإقصاء من المشهد الليبي بالكلية، مع عدم إغفال الدور المصري والإماراتي الداعم بمنتهى القوة لحفتر منذ البداية. ولكن الحقيقة من وجهة نظري ربما تكون أبعد من ذلك بكثير.

الحالة العراقية وأخواتها

نقصد بالحالة العراقية : الوضع الجيوسياسي الذي انتهى إليه العراق الكبير الذي كان يمثل بوابة المنطقة الشرقية إزاء الطموحات والتهديدات الإيرانية ، والأهداف الجيوسياسية الكثيرة والمكاسب الخطيرة التي حققها الأمريكان من غزو العراق سنة 2003 ، فالعراق الكبير تم تفكيكه وتمزيق بنيته الاقتصادية ونسيجه الاجتماعي وتدمير جيشه الوطني ، وأصبح بؤرة ملتهبة لا تعرف ـ ولن تعرف والله أعلم ـ من الطائفية والعرقية ، بحيث أصبحت الحالة العراقية نموذج سعى الأمريكان لتطبيقه بعد ذلك في اليمن وسوريا والسودان وأفغانستان ولبنان وغير ذلك من دول المنطقة بنفس الأهداف ومع اختلاف الوسائل والآليات . الهدف الأساسي دول قائمة ظاهريا ومفككة فعلياً ، دول فاشلة بالكلية ، ويبدو أن الدور قد حان على ليبيا لاستنساخ الحالة العراقية .
البداية في تدمير العراق كان في حلّ جيشها الوطني ، وهو ما لا تحتاجه الحالة الليبية نظراً لوجود العديد من المليشيات والقوى العسكرية المتنافسة شرقاً وغرباً ، فالمبعوث الدولي إلى ليبيا مارتن كوبلر، الذي اقترح – بناء على اتفاق الصخيرات – فكرة تشكيل ثلاثة جيوش في ليبيا، تحت قيادة واحدة ، قبل أن يعود ليعدلها بإمكانية تشكيل جيش ليبي موحد، تحت قيادة المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني، لحفظ الأمن بالبلاد، على أن يتشكل هذا الجيش من ثلاث قوات مسلحة ليبية بثلاث قيادات في الشرق والغرب والجنوب، متجاهلا الواقع القائم بالفعل بوجود قوات مسلحة ليبية في غرب البلاد، ومركزها قاعدة الوطية، وهي تتبع مباشرة القوات المسلحة في المنطقة الشرقية، وقائدها العام خليفة حفتر، فيما تتواجد قوات أخرى في الجنوب تحت إمرة محمد بن نايل، وهولواء مشاة معزز بالكامل يتبع في قيادته حفتر كقائد عام، ما يعني أن الفكرة قد تسهم في تأجيج صراعات القوى بالداخل، وتدخل البلاد في حرب أهلية طاحنة. بصورة تشبه لحد كبير الحالة العراقية .
في الحالة العراقية وبعد حلّ الجيش الوطني ، تمّ وضع اليد على الأموال العراقية المودعة هنا وهناك في مصارف العالم، والتي تقدّر بأكثر من 13 مليار دولار، أضيفت إليها أموال العراق في الولايات المتحدة، البالغة أكثر من ثلاثة مليارات، وبدعم وغطاء من مجلس الأمن الدولي، استولت المحتل الأمريكي على أموال برنامج «النفط مقابل الغذاء» ومبلغها 21 مليار دولار. 
كما جمعت سلطات الاحتلال الأموال التي عُثر عليها في القصور الرئاسية والمقرّات الخاصة، وبلغت ستة مليارات، إضافة إلى أربعة مليارات من الدولارات كانت في المصرف المركزي العراق.

طبعاً هذه الأموال الهائلة لم تنفق في مصالح الشعب العراقي أو تطوير الديمقراطية أو بناء المشافي والمدارس ورياض الأطفال والجامعات، بل جرى صرفها لصالح الشركات الأمريكية الكبرى، وشراء الذمم السياسية، وتوزيع الهبات والأعطيات على الأزلام والموالين، أفراداً وقوى سياسية ومذهبية على حدّ سواء. وبكل صفاقة وإجرام ولصوصية يقوم المندوب السامي الأمريكي بول بريمر بسرقة 11 مليار دولار أثناء خروجه من العراق شحنها على ظهر حوّامة عسكرية! إلى جهة مجهولة في كردستان العراق، قبل أن ينتهي بها المقام في بنك مغمور في سويسرا .

ولم تكن عملية نهب ثروات العراق لتقف عند هذا الحد ، فقد تم إقرار قانون جديد لاستخراج النفط وتسويقه يسمح للشركات الأمريكية وحدها حق احتكار التنقيب على النفط العراقي الذي يعتبر مخزونه من أكبر المخزونات العالمية ، وذلك أثناء ولاية الطائفي الحقير " نوري المالكي " الثانية على العراق . 

وكان إقرار القانون الجديد كفيلاً بإبطال جميع الاتفاقيات السابقة التي وقّعها العراق، في عهد صدّام حسين أو العهود السابقة، مع شركات فرنسية أو روسية أو صينية، وبالتالي ابتلع الأمريكان جميع ميادين صناعة النفط العراقية. من شدة فرح الأمريكان بالقانون قام أوباما شخصياً بمهاتفة المالكي الحقير وتهنئته على تمرير قانون النفط والغاز .

وأمريكا اليوم تريد تسوية الملف الليبي بالطريقة العراقية ، فوضى داخلية ، وحكومة هشة ، ونظام سياسي مهترأ ، وحرب أهلية بنكهة قبلية ، وتمكين للحلفاء والعملاء من مقاليد الأمور ، في حين يخلو الجو لنهب ثالث أكبر احتياطي نفطي على مستوى العالم واللعب بورقته ، ليتمكن الأمريكان من مزيد من الضغط والمساواة على دول إقليمية بعينها وأعنى السعودية .
 فالأمريكان وحلفاؤهم مهما كانت أغراضهم السياسية والدينية إلا إنهم في النهاية حفنة من القراصنة واللصوص وقطاع الطرق وناهبي الثروات.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق