الثلاثاء، 27 سبتمبر 2016

عنبر العقلاء.. أم الدنيا سابقاً

عنبر العقلاء.. أم الدنيا سابقاً


حسام الغمري

عزيزي الإنسان، إذا أردت أن تعرف كيف انهارت الأوضاع في مصر المحروسة، بلد الــ100 إنسان تحمل جيناتهم ميراث حضارة عظيمة أبهرت العالم يوماً وما زالت.. 
حضارة استوعبت حضارات أخرى ثم صارت بمثابة القلب لإمبراطورية عالمية استمرت ثلاثة عشر قرناً من الزمان!!

إذا أردت أن تعرف كيف انهار فيها نظام التعليم والصحة، كيف يلفظ اقتصادها أنفاسه الأخيرة على مرأى ومسمع من أبنائها، كيف كبلتها الديون الخارجية! ..
كيف باتت تفرط في أرضها، كيف أتت بالروس وملكتهم آلاف الأمتار شرق بورسعيد ومكنتهم من الضبعة.

عزيزي العاقل، إذا أدهشك انهيار قطاع السياحة فيها وهي تحتضن ثلث آثار العالم وشواطئ مبدعة، إذا تذكرت أن قطاعاً للصناعة أنشئ في بدايات القرن التاسع عشر ومصانع للأسلحة، ثم فوجئت أن أعظم صناعاتها اليوم هي صناعة الكحك والبسكويت.

عزيزي المدرك، إذا لاحظت أن الشركات الكبرى تهرب من مصر، والعلماء ينزحون عنها، وإعلامها تحول إلى وصلات مستمرة من الردح البلدي البذيء، إذا وجدت شعبها يتدرج من أكل القمح المسرطن إلى لحوم الحمير، ثم الفاكهة والخضراوات ببقايا الروث.

عزيزي المندهش، إذا تأكدت أن مصر أصبحت لا تفهم تاريخها وجغرافيتها وأبداً لا تحسن استغلال مواردها فإليك السبب:

قبل أيام بث التليفزيون الرسمي للدولة على شاشته الأولى لقاء تليفزيونياً مع اللواء أركان حرب نجم الدين محمود، مدير المتحف الحربي، أي من وجد فيه قادة عسكرنا الأشاوس الفهم والقدرة على تحمل أمانة التاريخ، ممثلاً في المتحف الحربي.

سأله المذيع عن أهم معارك الجيش المصري "برجاء ملاحظة أن البرنامج لم يكن كوميدياً أو ترفيهياً". فأجاب:- " أهم معارك الجيش المصري معركة حطين في عصر الفراعنة بقيادة تحتمس الثالث ضد الحيثيين وانتصر فيها تحتمس".

"برجاء ملاحظة أن السيد مقدم البرنامج مرر هذه المعلومة ولم يجرؤ على تصويب سيادة اللواء أو ربما ظن صحة هذه المعلومة".

ثم قال أيضاً:- معركة عين جالوت كانت بقيادة صلاح الدين وانتصر فيها صلاح الدين على الصليبيين.

" كالعادة مرر سيادة مقدم البرنامج المحترم هذا الهراء".

ثم تحدث سيادة اللواء عن معركة بحرية سماها "نسيب" كان قائدها الابن الأكبر لمحمد علي باشا وكانت هذه المعركة في الأستانة.

مقدم البرنامج الحكومي كان كالهواء لا لون له ولا طعم ولا رائحة".

ليست الكارثة أن المتحدث برتبة لواء، فلقد أتحفنا السادة اللواءات من قبل بتفاهات كجهاز الكفتة، والرياح الشمالية غربية التي ستعيد صواريخ إسرائيل إلى ضبط المصنع، والأشجار التي تنتج الأسمنت، ويبدو أن الكلية الحربية التي كانت يطلق عليها مصنع الرجال، باتت مصنعاً لإنتاج مروجي الخرافات والأساطير.

الكارثة أن المؤسسة العسكرية وجدت أن هذا اللواء هو الجدير بإدارة متحف يعرض تاريخنا الرائع المشرف الذي أساء إليه بالفعل هؤلاء الجنرالات الذين ليس لهم من الفكر العسكري إلا الرتب التي تزين بزاتهم، يرهبون بها كل من هم تحت سيطرتهم، ويسيطرون بها على أمة، سطوا على كل مفاصل الحكم فيها فأصبح الــ 100 مليون مصري أسرى لديهم!!

ثم خرج علينا كبيرهم الذي علمهم خداع الناس يطلب وسيلة تمكنه الحصول على "الفكة" بطريقة أشبه بطرق البلطجية وقطاع الطرق دون مسوغ من دستور أو قانون.. وكأن اقتصاديات الدول تدار بأسلوب أكشاك السجائر التي تستبدل الباقي بعُلب الكبريت، يالها من سخافة ما بعدها سخافة أن يستمر هؤلاء الجهلاء في إرهابنا بالسلاح الذي اشتريناه بقوت أبنائنا، إن الجاهل لا يولي إلا الأجهل منه.

وهذا عكسه تماما تليفزيوننا الرسمي الذي لم يتوفر فيه معد أو رئيس تحرير أو حتى رقيب أو مدير برامج أو رئيس للتليفزيون يمنع ظهور هذه الحلقة الكارثية التي اساءت لتاريخ أمتنا، وهؤلاء جميعهم لا أظن أن محتواهم الثقافي يختلف كثيراً عن محتوى الجنرال الذي استضافوه، بل لعلهم دونه!!

ان فرصة وجودي خارج مصر المكلومة بهؤلاء السفهاء مكنتني من رؤية المشهد عن بعد، كما وفرت لي ظروف عملي فرصة متابعة أخبار المنحوسة - المحروسة سابقاً - يوماً بيوم، ولا أبالغ إن قلت ساعة بساعة، فتكونت عندي قناعة ما أبشعها، كم أرفضها وأكرهها ولطالما حاولت الهروب منها، إن مصر بلادي التي أعشقها، وأتمنى العودة قريباً إليها أصبحت عنبراً للعقلاء بمفهوم الفيلم السينمائي القديم، الذي ظهر فيه معتوه يتحدث كنيرون، وآخر من المجانين يتحدث كنابليون، وثالث كعنترة.

واليوم نجد فيها أحاديث مشابهة من مجانين يتحدثون بصفة جنرالات وخبراء استراتيجيين، بل تمدد الأمر وتولوا الحقائب الوزارية ووثبوا على مقعد رئاسة الجمهورية.

أي مصير بغيض هذا الذي ارتضاه لك أبناؤك يا مصر، كيف سمحوا ويسمحون بهذا الهراء؟ كيف طفا الغث وتوارى السمين؟ كيف استمر الزبد ورحل ما ينفع الناس!!

إن استمرار زمام أمورها ومقاليد حكمها في يد هؤلاء السفهاء لن يفرز إلا مزيداً من الهوان، إنهم كالعميان يقودون حافلة مسرعة صوب الهاوية ة، ولا نجاة إلا بإبعاد هؤلاء عن صدارة المشهد ومحاكمة كل من شارك في صناعة هذا المشهد العبثي القبيح!!

إنهم يوماً ما قرأوا تاريخها كذلك لم يقدروها.
إنهم يوماً ما عرفوا قيمتها فقزموها وعجزوها.

قدراتهم العقلية محدودة فأفقروها، ثقافتهم معدومة فحطموا قوتها الناعمة وخذلوها، حتى صارت أم الدنيا سابقاً أشبه اليوم بعنبر العقلاء الذي يضم الملايين من البشر!!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق