كذلك خانت مصر من قبل!
حسام الغمري
مصر لما تخون.. دم العرب بيهون
يحتفظ الناصر صلاح الدين الأيوبي بمكانة عالية في وجدان المسلمين العرب، رغم أصله الكردي، لا لسبب غير نجاحه في استعادة بيت المقدس من الصليبيين بعد 90 عاماً من اغتصابها، كما أن اسمه يشكل هاجساً دائماً للوجدان الغربي، وليس أدل على ذلك من مقولة الجنرال الفرنسي غورو شامتاً أمام قبر صلاح الدين بعد انتصاره في معركة ميلسون عام 1920م: "ها قد عدنا يا صلاح الدين".
ولأن هناك من تعمد تغييب تاريخنا العربي والإسلامي عن المدارس وعن وسائل الإعلام، سواء الحكومية أو الموالية لها، تجد الكثيرين لا يعلمون كيف كان موقف مصر زمن اغتصاب القدس قبل أن يأتي إليها الناصر الذي استعاد مصر قبل أن يستعيد الأقصى، بل نستطيع أن نجزم بأنه لولا عودة مصر لما عاد الأقصى، وكأنه بضياع مصر تضيع المقدسات، وتنتهك الحرمات، وما أشبه الليلة بالبارحة.
فالتاريخ يخبرنا أنه في سنة 491هـ (1098م)، تمكن الصليبيون من تأسيس أول إمارة لهم في أرض الإسلام، وهي إمارة الرها (بين الموصل وحدود الشام)، ثم استطاعوا في نفس العام تأسيس إمارتهم الثانية وهي إمارة أنطاكية (شمال غرب سوريا)، ورغم المقاومة التي أبداها السلاجقة الأتراك الذين كانوا يحكمون آنذاك بلاد الشام، كانت الدولة الفاطمية تراقب الوضع عن كثب، لا لنصرة المسلمين كما هو المأمول والمرجو والمتوقع، أو لتقديم العون للأتراك للتصدي للصليبيين، وهذا أضعف الإيمان، إنما كانت المراقبة لأمر آخر لطخهم بالعار حتى يومنا هذا، هذا العار هو تماماً ما أشعر به اليوم كمواطن يحمل الجنسية المصرية؛ لأنه شديد الشبه بما نراه من حكومتنا الانقلابية!! التي لا تلبث تكيل الاتهامات لغزة الصابرة وأهلها المقاومين - بعض هذه الاتهامات كانت سبباً في سخرية المراقبين الدوليين - كما تعالت النبرات التي تتوعد بالحرب على بعض منا يقاوم وحده رغم غدر الحصار بعد أن ألصقوا به تهمة الإرهاب، بخلاف دور السيسي الداعم لإجرام الصهاينة الذي دمر ثلت غزة في صيف 2014!!
يقول د. محمد طقوش: في الوقت الذي وصلت فيه طلائع الحملة الصليبية الأولى إلى بلاد الشام كان الوزير الفاطمي الأفضل قد تحكّمت فيه روح العداء للأتراك المقاومين في بلاد الشام؛ لذلك لم يتحمس آنذاك لفكرة الجهاد ضد الصليبيين، وربما رأى بعض أركان الدولة في هؤلاء الغزاة درعاً تحميهم من الأتراك.
وكان على رأس الدولة الفاطمية آنذاك المستعلي بالله الفاطمي، وكان الوزير الأفضل بن بدر الجمالي هو صاحب السلطة الفعلية في الدولة وقائد الجند؛ إذ إن الدولة الفاطمية عاشت سنوات طويلة في ظل تسلط الوزراء وسيطرتهم على مقاليد الأمور.
وأثار موقف الوزير "الأفضل" من حصار الصليبيين لأنطاكيا، وتخاذله عن نجدة المحاصرين فيها استياء معظم المسلمين، حتى إن المؤرخين الذين يميلون في العادة إلى تسجيل الوقائع والأحداث بشكل مجرد دون التعليق أو إبداء الرأي استفاضوا في ذم خيانة مصر في عهد الأفضل، ويبدو أن التقاعس والتخاذل بلغا حدّاً جعل المؤرخ المصري ابن تغري يقول: ولم ينهض الوزير الأفضل بإخراج عساكر مصر، ولست أدري ما كان السبب في عدم إخراجهم مع قدرته على المال والرجال.
ويشرح ابن تغري أيضاً كيف خرجت عساكر المسلمين في العراق وبلاد الشام لصد زحف الصليبيين قائلاً: كل ذلك وعساكر مصر لم تُهيّأ للخروج واكتفت بقمع المصريين في الداخل الذين طالبوا بإعلان الجهاد على الغازي المحتل الصليبي.
- ويبدو أن براعة عساكر منذ القدم تتجلى فقط في قمع المصريين
ثم يستطرد ابن تغري قائلاً: ولم يكتفِ الوزير الأفضل بهذا، وبدلاً من أن يجيّش الجيوش لصد المعتدين، أرسل سفارة إلى الصليبيين بينما كانوا يحاصرون أنطاكيا، وتفيد بعض المصادر الصليبية بأن الوزير الأفضل عندما رأى حصارهم لأنطاكيا قد طال، خاف من أن يتسرب الضعف والملل إلى نفوس الصليبيين؛ لذا أرسل إليهم يرجو قادتهم مواصلة حصار المسلمين، وأكد لهم أنه سيساعدهم بالإمدادات العسكرية والمواد الغذائية، وكلّف سفراء مخصوصين بالعمل على كسب قلوب قادة الصليبيين.
- ولعله أرسل إليهم من يرفه عنهم أيضاً
وبشيء من الأسى يقول المؤرخ جمال بدوي: لم يجد الوزير الأفضل في الانتصارات التي أحرزها الصليبيون في آسيا الصغرى وأنطاكيا كارثة عامة حلّت بالمسلمين، وإنما وجد فيها أمنية عزيزة هي تخليص الشرق الأوسط من سيطرة الأتراك من أهل السنة والجماعة، ولم يكتفِ هذا الوزير الخائن بموقف المتفرج فقط، ولا عرض التحالف مع الصليبيين ضد السلاجقة والمسلمين السنة فقط، إنما وجه طعناته إلى الاتراك باحتلال عدد من المدن التي بحوزتهم وعلى رأسها مدينة صور، أي أن الأفضل بدلاً من أن يوجه جنوده وقواته إلى محاربة الصليبيين، وجّهها إلى قتال الأتراك الذين كانوا منهمكين في قتال الصليبيين والدفاع عن المدن الإسلامية!!
ويفجر الباحث الأستاذ يوسف إبراهيم مفاجأة؛ إذ يقول: كانت الدولة الفاطمية على علمٍ بأهداف الصليبيين وخطّ سيرهم حتى قبل وصولهم إلى أراضي المسلمين، فقد بلّغ الصليبيون أهدافهم للوزير الأفضل، فرماه بعض المؤرخين بالخيانة.
ويقول ابن الأثير في كتابه "الكامل في التاريخ": إن الوزير الأفضل لما رأى قوة الدولة السلجوقية وتمكنها واستيلاءها على بلاد الشام إلى غزّة ورغبتهم في إحياء الدين، ولم يبقَ بينهم وبين مصر ولاية أخرى تمنعهم، خافوا وأرسلوا إلى الفرنج يدعونهم إلى الخروج إلى الشام ليملكوه.
يقول أيضاً ابن تغري: والعجيب أن الفرنج لمّا خرجوا إلى المسلمين كانوا في غاية الضعف من الجوع وعدم القوت، حتى إنهم أكلوا الميتة في الطريق، وكانت عساكر الإسلام (أي قوات الوزير الأفضل) في غاية القوة، والكثرة، ومع ذلك تركوا الصليبيين يقتلون المسلمين ويمزقون جموعهم.
وهكذا بسبب خيانة هذا الوزير الملعون ظلّت القدس بيد الصليبيين، إلى أن أرسل الله لمصر بطلاً من أبطال الأمة، هو صلاح الدين الأيوبي الذي تمكّن من إعادة مصر عن غيها، وضمها لمحيطها الإسلامي السني، وفي سنة 583 هـ (1187م) تمكن من تحرير القدس بعد معركة حطين الشهيرة، استطاع صلاح الدين ذلك بعد إصلاح ما أفسده الوزير الأفضل الخائن للدين والعروبة هو وأتباعه الذين ساروا على دربه من بعده.
فمن يستعيدك اليوم يا مصر من هذا السيسي الذي حمل شعبها على التهام لحوم الحمير، ونشر الفتنة والتضليل، وشوه الأمين، ومكن الفاسد، وطارد الثوري، ومهد لمخطط التقسيم كما لم يمهد له خائن من قبله.
وما أشبه الليلة بالبارحة!!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق