ولا يُنبئك مثل خبير
د.محمد عمارة
المستشرق الألماني "شاخت جوزيف" (1902- 1969 م) واحد من كبار المستشرقين على النطاق العالمي، شغل كرسي الأستاذية في العديد من الجامعات الغربية والعربية، منها الجامعة المصرية والجزائرية، وشغل عضوية العديد من المجامع العلمية، منها المجمع العلمي العربي بدمشق، وأشرف على مجلة الدراسات الإسلامية التي يصدرها المستشرقون.
وله العديد من المؤلفات في الشريعة الإسلامية والفقه الإسلامي، وعلم الكلام الإسلامي، وعلم الاجتماع الإسلامي، كما حقق ونشر الكثير من النصوص التراثية الإسلامية في الطب والتاريخ.
وفي الكثير من أعماله العلمية صفحات تشهد للشريعة بالتميز والتفوق على غيرها من الشرائع والقوانين الأخرى، وفي هذه الشهادة يقول - ضمن ما يقول - إن من أهم ما أورثه الإسلام للعالم المتحضر قانونه الديني، الذي يسمى الشريعة، وهذه الشريعة الإسلامية تختلف اختلافا واضحا عن جميع أشكال القانون، إنها قانون فريد في بابه، والشريعة الإسلامية هي أبرز ما يميز الحياة الإسلامية، وهي لب الإسلام ولبابه.
وبالرغم من أن التشريع الإسلامي قانون ديني، فإنه من حيث الجوهر لا يعارض العقل بأي وجه من الوجوه، فهو لم ينشأ من عملية وحي متواصل فوق العقل، وإنما نشأ من منهج عقلاني في فهم النصوص وتفسيرها، ومن هنا اكتسب مظهرا عقليا مدرسيا، كما أن قواعد هذا التشريع لا تدعو إلى مراعاة النص الحرفي للأحكام دون روحها.
إن التشريع الإسلامي ذو منهج منظم، وهو يؤلف مذهبا متماسكا، ونظمه المتعددة مترابطة بعضها مع بعض، ويتجلى في الشريعة الإسلامية نموذج بليغ لما يمكن أن يسمى "قانون الفقهاء"، فقد أنشأ هذا القانون وطوره فقهاء متخصصون أتقياء بجهود خاصة.
إنه يقدم مثالا لظاهرة فريدة يقوم فيها العلم القانوني، لا الدولة، بدور المشرع، وتكون فيها لمؤلفات العلماء قوة القانون.
ولقد أثر التشريع الإسلامي تأثيرا عميقا على قوانين أهل الديانات الأخرى، من اليهود والنصارى الذين شملهم تسامح الإسلام وعاشوا في الدولة الإسلامية، فبالنسبة للجانب اليهودي، تأثر "موسى بن ميمون" (601 هـ، 1204 م) ببعض ملامح المؤلفات الإسلامية في تنظيمه للمادة القانونية في مدونته (مشنة توراة)، وهو عمل لم يسبقه إلى مثله أحد من اليهود.
ومن جهة أخرى، فإنه بالنسبة للجانب المسيحي، فليس هناك شك في أن الفرعين الكبيرين من الكنيسة المسيحية الشرقية، وهما اليعاقبة والمونوفيزية (أصحاب الطبيعة الواحدة) والنسطوريون لم يترددوا في الاقتباس بحرية من قواعد التشريع الإسلامي.
وعلى حين شهدت المسيحية نزاعا بين الدين والدولة، فقد اتخذ أشكالا مختلفة، فإن الإسلام قد خلا مما يشبه "الكنيسة"، فالشريعة الإسلامية لم تستند مطلقا إلى تأييد قوة منظمة، ولم ينشأ في الإسلام فقط اختبار حقيقي للقوى بين الدين والدولة، وظل المبدأ القائل بأن "الإسلام من حيث هو دين ينبغي أن ينظم الناحية القانونية في حياة المسلمين"، قائما لا يتحداه أحد.
تلك شهادة خبير عالمي في الشريعة الإسلامية والفقه الإسلامي، وهو في ذات الوقت خبير بالشرائع والقوانين الغربية، وهي شهادة نتمنى أن تحظى باهتمام الذين يشنون الغارات المشبوهة على الإسلام وعلى الشريعة الإسلامية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق