جيش حليمة
منذ انقلاب يوليو/تموز 2013 وأنا أحاول فضح هذا النظام العسكري، سواء وأنا داخل مصر أو بعد انتقالي للعيش خارجها قبل عام ونصف تقريباً، لم أتردد في سرد حقيقة أعلمها بهدف توعية الشعب ونزع القناع عن زيف تسلطهم، ولا أقول خيانتهم، بل يكفي أن أقول فشلهم في إدارة مصر عبر 64 عاماً صرنا بعدها في ذيل الأمم، تحدثت عن كل شيء إلا تجربتي كمجند في اللواء الثالث مشاة ميكانيكي، ومكانه التبادلي منطقة المليز بسيناء، أي أنه يعتبر ضمن خط الدفاع الأول ضد العدو الصهيوني، كما يخبرني كارت المهمة الخاص بي حالة هجوم العدو قادماً من الشرق.
كنت أعتبر أن نشر مشاهداتي عن جيش بلادي عمل غير أخلاقي، وأن الإبقاء على ورقة توت تستر عورته ضرورة مُلحة، على الرغم من قناعتي التامة بأن الأعداء يعلمون عنه أضعاف ما نعرف، ولكنها بقايا قداسة قديمة رسخها الإعلام داخل جيل مواليد أكتوبر/تشرين الأول 73 وأنا منهم، حول هذا الجيش الذي قهر العدو في ست ساعات.
ولكن شهد هذا الأسبوع أمرين غيرا قناعتي هذه، وحملاني على البوح بما أمرت لساني بكتمانه وقلمي بالابتعاد عن ذكره طوال ثلاثة أعوام.
الأول هو تصريح السفير الصهيوني بأنهم شركاء مع هذا الجيش في محاربة الإسلاميين، هذا التصريح الذي لم تكلف حكومة السيسي نفسها عناء نفيه، عندها قلت في نفسي: إذن أنا سأروي ذكرياتي مع شريك للصهاينة لا ضير إذن من فضح أمره.
والثاني هو فضيحة لبن الأطفال الذي قرر جيشنا الباسل التكسب من ورائه، عندها أدركت مدى وضاعة قياداته، وعندها أيضا تذكرت العبارة التي جعلتها عنواناً لهذا المقال.
بعد فترة تدريب كان فيها الهدف الأسمى لصف الضباط المسؤولين عنا كمجندين فقط صبغنا باللون الأسود بتركنا أطول فترة ممكنة تحت الشمس في ساحة التدريب التي لم نتدرب فيها إلا على سماع الألفاظ البذيئة، وذكر كل ما يتعلق بالأم سباً وقذفاً، فضلاً عن عنجهية شديدة غير مبررة من كل من زينت أكتافه بدبابير لامعة، وكأن كل واحد منهم مونتوجومري في عبقريته، أو روميل في خفة تحركاته عبر الصحراء، أو ماك آرثر في إنزاله المذهل على سواحل اليابان.
انتهت فترة التدريب التي لطالما أخبرونا أنها ستكون الألطف طوال مدة الجيش وقد صدقوا، فلقد أدركنا صحة هذه النبوءة بمجرد إرسالنا كقطيع من الأغنام عبر قطار حربي إلى معسكر استقبال المستجدين التابعين للجيش الثاني الميداني، الذي يعتبر نظرياً اكبر جيش ميداني في الشرق الوسط.
كانت روائح الفضلات البشرية تستقبلنا قبل 500 متر تقريباً من بوابة الحوش الضيق جداً الذي اختاروه لاستقبالنا، وكنا بضع مئات من المجندين، بعدها اكتشفت أن بالمكان دورة مياة واحدة فقط مخصصة لهذا العدد الضخم من خير أجناد الأرض، وبالتالي لم يجد الجنود بداً من استخدام أسوار المعسكر الداخلية لقضاء حاجتهم.
بمجرد وصولنا بدأ النداء عبر مكبر صوت من ضابط "مخلى" برتبة نقيب - الضابط المخلى ليس أحد المتخرجين من الكلية الحربية بل وصل عبر سنوات الخدمة الطويلة إلى رتبة الملازم عبر التطوع في الجيش - على بعض أسماء زملائي المجندين يطلب منهم الحضور مع "المخلى" - وهي الجوال الميري الذي نضع فيه كل أمتعتنا كجنود "بعد دقائق عرفت أن هؤلاء المختارين لديهم واسطة، وسيغادرون للتو هذا الجحيم المقزز إلى منازلهم حتى تنتهي فترة استقبالنا في الجيش الثاني الميداني، استمر النداء على الجنود الذي يتمتعون بالواسطة حتى الساعة العاشرة مساء حين خرج علينا سيادة النقيب قائلاً: "محلك نام"!!
كنا نقف متراصين بصعوبة بالغة فوق رمال هذا الحوش القذر فكيف يمكن أن ننام في نفس المكان، وهل سنلتحف السماء في هذا الليلة الباردة من شهر نوفمبر/تشرين الثاني؟
- "الجيش بيقولك اتصرف".
كان هذا هو تعقيب سيادة النقيب حين سألناه عن إمكانية النوم في هذا العراء الضيق.
- لماذا كان يجب ان نبيت ليلتنا هنا؟
هكذا سألت نفسي حين بدأت أشعة الشمس تداعب عيوني التي لم تعرف النوم بالطبع، خاصة أن الحُلة التي كنت ارتديها "الزنط" كان قد أصابه البلل التام بفعل الندى، ولكن جاء الصباح بالإجابة، حيث أطل علينا صوت نقيب المخلى قائلاً: "انتو طبعا جعانين .. بس للأسف ملكوش تعيين "طعام ميري" هنا في معسكر الاستقبال.. لكن هييجيلكم في الكانتين بعد شوية سندويتشات طعمية.. اللي جعان يشتري".
- ممعناش فلوس يا فندم.
هكذا كان تعقيب أحد الجنود، قبل ان تنهال عليه لعنات سيادة النقيب؛ لأنه تحدث دون إذن بخلاف الأوامر العسكرية المستديمة، وبعد انتهاء وصلة سباب الجندي التفت سيادة النقيب إلينا قائلاً:
- اللي ممعاهوش فلوس يشحت من زمايله!!
عندما فتح شباك الكانتين الضيق أبوابه تدافع زملائي المجندون الذين كاد الجوع يفتك بهم، لا سيما في البرد القارس الذي جعل أجسادنا في حاجة ماسة إلى سُعرات حرارية، وبعد طول انتظار عبر طابور طويل اكتشفت أن جيشنا الباسل يبع رغيف الخبز وزن الريشة، ومعه قطعتان من الطعمية بنصف قطر يكاد يطابق القرش صاغ القديم بمبلغ جنيه واحد بأسعار التسعينات، وعندها أدركت على الفور سر بقائنا ثلاثة أيام في ما يسمى ضمناً بمعسكر استقبال الجيش الثاني قبل أن يتم ترحيلي إلى الفرقة 16 وهي إحدى الفرق التابعة للجيش الثاني .
وفق القانون، كما أخبرونا في مركز التدريب كان يجب أن نحصل على إجازة لمدة اسبوع بمجرد وصولنا إلى معسكر استقبال الجيش الثاني، ولكن أبت قيادة الجيش إلا أن نبقى ثلاثة أيام حتى يتأكدوا أن الأموال التي بقيت في جيوبنا قد استنفدها كانتين المعسكر الخبيث قبل ترحيلنا إلى الفرقة، وتأكدنا من ذلك بعد الذي قاله ضابط ضخم الجثه برتبة رائد، علمنا أنه المسؤول عن مكتب الأفراد بالفرقة، والذي أمطر أحد جنوده بوابل من الصفعات على مرأى منا فبلغت قلوبنا الحناجر قبل أن يفاجئنا بالخبر السعيد بصوته العريض قائلاً:
- طبعا انتو مفلسين، علشان كده همضيلكم على أورنيك غياب عن المعسكر 5 أيام علشان تروحوا تاكلوا وتستحموا وتجيبوا فلوس وترجعوا.
عندها رفع أحد المجندين زملائي يده وانتظر أن يأذن له سيادة الرائد بالكلام، وبعد الإذن، قال بصوت متردد:
- بس هما قالوا لنا في مركز التدريب إننا هناخد إجازة أسبوع يا فندم.
عندها عقب سيادة الرائد قائلاً:
- مفيش حاجة في الجيش اسمها إجازة يا دفعة.. إحنا بنديك إذن بالغياب عن المعسكر بالمدة اللي نحددها.. وانا مضيت لكم على 5 أيام .. مش عاجبكم خليكم متلقحين هنا.
بالطبع تعالت الأصوات بالموافقة على الخمسة أيام ولو طلب منا حينها أن نغني له اخترناك لفعلنا، لأن الاشتياق لكل شيء آدمي كان قد بلغ منا مبلغاً كبيراً.
عند عودتنا إلى الفرقة مُحملين بما جاد به الأهل من اموال اقتطعوها من أقواتهم أدركنا سر اليومين اللذين تم خصمهما من إجازتنا، كما أدركت سر الأيام الإضافية التي تركونا فيها ننام في عراء معسكر الفرقة؛ حيث اماكن النوم فقط مخصصة للجنود القدامى الملحقين بالفعل على قوة قيادة الفرقة، وإن كان هذا العراء أكثر رحابة، قبل ترحيلنا أخيرا إلى كتائبنا، أن السر هو كانتين الجيش اللعين، الذي تمت إهانة آدميتنا على مدار الساعة كي تمتلئ خزائنه وصولا إلى جيوب حضرات الضباط، هذا الكانتين الذي كان يباع فيه أردأ أنواع الأطعمة بأعلى الأسعار الممكنة، هذا الكانتين الذي تحكم في حياتنا نحن أصحاب المؤهلات العليا عاما كاملا، فكان التدريب الحقيقي الذي حصلت عليه، وكانت المهارة الوحيدة التي اكتسبتها هي كيفية إرضاء الكانتين من أجل الحصول على إجازة يكفلها قانون الجندية.
أما التدريب القتالي، التدريب على استخدام الأسلحة، التدريب على فنون القتال الليلي أو حتى النهاري، التدريب على صد هجمات العدو المحتملة، كل هذه العناوين لا يعرف عنها المجند المصري أي شيء، أما كفاءة كتيبتي القتالية واقعيا وليس وفق الجنيهات الذهبية فحدث ولا حرج، تلك الجنيهات الذهبية التي رأيت كيف تمنح للضباط الكبار الذين جاءوا للتفتيش أثناء مشروع حرب اللواء الذي كنت أخدم فيه، فمُنح درجة الامتياز على الرغم من ان سريتي الثالثة مثلا ضلت طريقها أثناء الليل لساعات ولم تصل إلى الهدف المحدد، وغيره من الأخطاء التي تمت في هذا المشروع التدريبي الذي كان مجرد حبر على ورق، كل هذه التفاصيل قد يضمها مقالي القادم، اما الآن سأختم مقالي بأطرف قصص تجنيدي وحدثت عند انتهاء خدمتي حيث اكتشفت من كارت المهمة الخاص بي أن تسليحي المفترض حال قيام المعركة هو الآر بي جي، وهو السلاح الذي لم تلمسه يداي قط طوال مدة بقائي في الخدمة..
والعجيب أننا حين كنا نسأل قادتنا -صف الضباط بالطبع- عن أي حق مشروع يكفله القانون لنا كجنود كانوا يجيبون في حسم:
- انتو فاكرين نفسكم في جيش حليمة..
كناية عن السيدة حليمة السعدية أشهر مُرضعة في تاريخ الإنسانية، والمقصود انه ليس جيشا لرعاية المجندين، والمدهش أنهم بعد فضيحة اللبن الأخيرة، قد حولوه بالفعل إلى جيش حليمة.. ولكنها حليمة أخرى، غير السيدة حليمة السعدية!!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق