الثلاثاء، 12 أغسطس 2025

من مآذن كوجاتبه إلى قبة البرلمان.. أنقرة تهدر غضباً لغزة: آلاف الإدانات لا تعادل رصاصة واحدة

من مآذن كوجاتبه إلى قبة البرلمان..

أنقرة تهدر غضباً لغزة: آلاف الإدانات لا تعادل رصاصة واحدة







الأحد 10 أغسطس 2025 لم تكن أنقرة كعادتها، لم تكن عاصمة هادئة تمارس حياتها اليومية، بل تحولت إلى بركان حيّ، يلفظ الحمم في شوارعها، وينفجر بالغضب والكرامة، من ساعات الصباح الأولى بدأت ملامح اليوم تتشكل؛ حافلات، سيارات خاصة، وحتى مجموعات جاءت سيرًا على الأقدام، كلها تتدفق نحو مسجد كوجاتبه، أكبر مساجد العاصمة وأحد معالمها الروحية والسياسية.

الناس من كل الأعمار، من المدن الكبرى مثل إسطنبول وإزمير، ومن القرى البعيدة في الأناضول، اجتمعوا في مشهد مهيب يوحي أن القضية التي جمعتهم أكبر من أي اختلافات داخلية.

على أبواب المسجد، ازدحمت الساحات الخارجية بالمصلين، الذين جاؤوا ليجمعوا بين الصلاة والموقف، بين العبادة والعمل، وكأنهم يعيدون إلى الأذهان صورة المسلمين الأوائل وهم يخرجون من المساجد نحو ميادين الجهاد والنصرة.

رمزية الانطلاق من مسجد كوجاتبه

لم يكن اختيار مسجد كوجاتبه نقطة الانطلاق عفويًّا أو اعتباطيًّا؛ فهذا المسجد ليس مجرد بناء ضخم يزين سماء أنقرة، بل هو رمز للهوية الإسلامية في قلب تركيا الحديثة، وصوت يعلو كلما حاولت موجات العلمنة أو الضغوط السياسية إخماد الشعور الديني العام.
من كوجاتبه، انطلقت في الماضي مسيرات ضخمة لنصرة البوسنة، ووقفات احتجاجية ضد الاحتلال الأمريكي للعراق، واليوم يعود المسجد ليؤدي دوره في نصرة فلسطين، هذه الاستمرارية تمنح الحدث بعدًا تاريخيًّا؛ الشعب التركي حين يشتعل قلبه يبدأ من المسجد؛ لأن المسجد ليس مكانًا للعبادة فحسب، وإنما هو مركز تعبئة روحي وسياسي.

الطريق إلى البرلمان.. جسر بين العقيدة

 والسياسة

من كوجاتبه إلى البرلمان التركي، قطع المتظاهرون مسافة ليست طويلة جغرافيًّا، لكنها عميقة المعنى، فالمسجد منبع الإيمان والشرعية الروحية، والبرلمان منبع القرار والشرعية السياسية، وفي هذا الربط بين المنبعين، يرسل الشعب رسالة واضحة؛ أنه لا فصل بين الدين والسياسة حين يتعلق الأمر بفلسطين؛ لأن القضية هناك ليست سياسية بحتة ولا دينية بحتة، بل هي قضية حرية وعدالة وكرامة إنسانية.

كانت الشوارع الممتدة بين المسجد والبرلمان تتحول إلى موجة بشرية متلاطمة، كل موجة منها تهتف وتلوح بالأعلام وتردد الشعارات، وكأن البحر البشري يقول: نحن نحمل فلسطين من القلوب إلى مراكز القرار.

بحر من البشر وصوت واحد

من أعلى نقطة في أحد المباني المطلة على المسار، كان المشهد أشبه بلوحة حية؛ من صفوف متراصة من البشر؛ رجالاً ونساء، شباباً وكهولاً، وأطفالاً على أكتاف آبائهم، كلهم يشكلون تيارًا واحدًا يتجه نحو هدف واحد.

الهتافات كانت تتناوب بين اللغة التركية والعربية: «بالروح بالدم نفديك يا أقصى»، «Katil İsrail Filistin'den defol»، «غزة رمز العزة»، «Özgür Filistin»، وبين الهتاف والهتاف، ترتفع أصوات التكبير «الله أكبر»، فتدوّي في أرجاء أنقرة، كأنها تعلن أن الشعب هنا ليس مجرد متضامن، بل هو شريك في المعركة المعنوية.


اللافتة التي هزّت الضمائر

في مقدمة المسيرة، تقدمت لافتة ضخمة بيضاء، كتبت عليها عبارة قصيرة لكنها قاطعة: «آلاف الإدانات لا تعادل رصاصة واحدة»، هذه الكلمات، التي التقطتها عدسات المصورين ووكالات الأنباء، تختصر إحباط الشعوب من الاكتفاء بالكلام، وتترجم شوقهم إلى أفعال توقف العدوان.

إنها ليست دعوة للعنف من أجل العنف، بل دعوة لفعل مؤثر، لخطوة حقيقية توقف آلة القتل الصهيونية، لأن العالم منذ عقود يكتفي بالشجب والإدانة، بينما الدم الفلسطيني يواصل النزف.

إجماع تركي حول فلسطين

من المدهش في هذه المظاهرة أنها جمعت أطياف الشعب التركي كافة؛ من إسلاميين، وعلمانيين، وقوميين، ويساريين، وليبراليين، جميعهم كانوا هناك، الأحزاب الكبرى أرسلت ممثلين، واللافتات الحزبية غابت عمدًا؛ لأن فلسطين كانت هي الراية الوحيدة التي رفرف ظلها فوق الجميع.

هذا الإجماع نادر في عالم السياسة، لكنه ثابت في تركيا حين يتعلق الأمر بفلسطين، فالقضية بالنسبة للأتراك ليست شأنًا خارجيًّا، وإنما امتداد لضمير الأمة التركية وتاريخها العثماني، الذي اعتبر القدس والمسجد الأقصى أمانة في عنقه.

صوت الشارع ورسالة القصر

في عمق المشهد، كان المتظاهرون يوجهون رسائلهم ليس فقط إلى البرلمان، بل إلى القصر الرئاسي، للرئيس رجب طيب أردوغان مكانة خاصة في وجدان أنصار فلسطين، بسبب خطبه النارية ومواقفه الصلبة في المحافل الدولية، لكن اليوم، ومع هذا السيل البشري الذي ملأ الشوارع، الرسالة كانت أوضح؛ آن الأوان للانتقال من القول إلى الفعل.

المتظاهرون يريدون من أردوغان أن يقود مبادرة عملية، تحشد الدعم الإقليمي والدولي، وتفرض حصارًا سياسيًّا واقتصاديًّا على الكيان المحتل، وتستثمر الغضب الشعبي التركي كأداة ضغط على الساحة العالمية.

بُعد إنساني يتجاوز الحدود



لم تكن المظاهرة اليوم مجرد حدث سياسي، بل كانت حدثًا إنسانيًّا بامتياز، صور الأطفال الفلسطينيين الشهداء، وأصوات الأمهات الثكالى، وصور المستشفيات المدمرة، كلها كانت حاضرة على اللافتات وفي الأحاديث الجانبية بين المتظاهرين.
في إحدى الزوايا، سيدة خمسينية تحمل صورة طفل فلسطيني مبتسم، وتقول لامرأة بجوارها: «أشعر أنني أمه.. دموعه دموعي»، وعلى مقربة منها، شاب عشريني يهتف: «Gazze uyumaz, biz de uyumayız» (غزة لا تنام، ونحن أيضًا لا ننام).

مقارنة بمواقف الشعوب الأخرى
في وقت بدا فيه الشارع العربي مثقلًا بالصمت أو المظاهرات المحدودة، جاء المشهد التركي مختلفًا، نابضًا بالحياة والحركة، المدن التركية، من إسطنبول إلى ديار بكر، شهدت منذ بداية العدوان مظاهرات شبه يومية، لكن أنقرة اليوم قدمت ذروة هذا الحراك، في أعداد المشاركين، وفي وضوح الرسائل، وفي رمزية المكان.

أثر المظاهرة على الداخل والخارج

هذه الحشود ليست مجرد رقم، بل هي رسالة إلى الداخل بأن الشعب لن يقبل صمتًا أو ترددًا، ورسالة إلى الخارج بأن تركيا قادرة على أن تكون مركز ثقل في معركة كسر الحصار عن غزة، إذا استثمرت القيادة هذا الزخم، يمكن أن يتحول إلى سياسة نشطة، تضغط على الكيان المحتل في المحافل الدولية، وتعيد ترتيب أولويات الدبلوماسية التركية.

من أنقرة إلى غزة.. وعد لا ينكسر

في نهاية اليوم، وعند اقتراب المسيرة من البرلمان، كان الغروب يرسم لوحة مهيبة على سماء أنقرة، ألوانها مزيج من الأحمر والأبيض والأخضر والأسود، كأن الشمس وهي تغيب تحمل معها رسالة أنقرة إلى غزة؛ لسنا بعيدين، دماؤكم دماؤنا، ووجعكم وجعنا.
ومن بين الهتافات المتفرقة، ارتفع صوت شاب قوي: «أيها الجيوش، إلى غزة»، وكأن النداء عبر الزمن، يذكر الأمة كلها أن فلسطين لا تحررها البيانات، بل المواقف والأفعال.

رسالة الجماهير للرئيس أردوغان

هذه الجموع الحاشدة التي احتشدت بعشرات الآلاف، تبلغ بلسان حالها رسالة للرئيس تقول فيها: «سيادة الرئيس رجب طيب أردوغان، اليوم، خرجت أنقرة عن بكرة أبيها، لا فرق بين شرقها وغربها، ولا بين حزب وآخر، لتقول لك: نحن خلفك، لكننا نريدك في المقدمة، لا بالكلمة وحدها، بل بالفعل الذي يغيّر مجرى الأحداث.
لقد سمع العالم خطبك التي هزّت المحافل الدولية، ووصفتَ فيها الاحتلال بما هو أهله من إرهاب ودموية، فارتفعت قاماتنا وفخرنا بك، لكننا اليوم، ومع هذا الطوفان الشعبي الذي غمر شوارع العاصمة، نقول لك: إن الشعب الذي يهتف باسمك وباسم فلسطين، ينتظر منك أن تتحرك بخطوات عملية تليق بزخم هذا الموقف التاريخي.
نريد أن نراك تقود تحالفًا عالميًّا إنسانيًّا، يجمع الدول الرافضة للإبادة في غزة، ويكسر الحصار السياسي والاقتصادي عن أهلها، ويفرض على العدو الصهيوني عزلة خانقة حتى يتوقف عن جرائمه.
إن التاريخ لا يذكر من وقف متفرجًا، بل يذكر من أخذ زمام المبادرة، فكن أنت قائد هذه المبادرة، نحن نعرف أن الكلمة القوية قد تحرك الضمائر، لكن الفعل القوي هو الذي يغيّر المعادلات.
اليوم، في أنقرة، كتب الشعب التركي لك تفويضًا مفتوحًا، ممهورًا بدموعه وصرخاته، لتنتقل من ميدان القول إلى ميدان الفعل، ولتجعل من تركيا قبلة الأحرار وقيادة المقاومين، كما كانت دائمًا.
الوقت قد حان.. والتاريخ يفتح صفحاته.. فاختر أن تُكتب في الصفحة التي تليق بك».

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق