خطورة الإجراءات الأخيرة لإدارة ترامب على الحقوق الرقمية
في الأيام الماضية خضعت وزارة الخارجية الأمريكية لإعادة الهيكلة الأكثر شمولًا؛ إذْ في ضربة واحدة تم فصل أكثر من 1350 موظفًا، وتضررت بشدة الوحدات التي تركز على تعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان ومكافحة الاتجار الشائن وإعادة توطين اللاجئين، وعلى التوازي تم تفكيك الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID) – وهي الركيزة طويلة الأمد للقوة الناعمة الأمريكية – وقد قيل هناك عن هذه الحملات: “إنّها أكثر من مجرد تنظيف منزلي بيروقراطي، إنها تمثل تحولًا نموذجيا في نهج أمريكا تجاه الدبلوماسية والتنمية والحوكمة الرقمية”، ومع ذلك فليس هذا التحول هو الأكثر إثارة للقلق؛ لأنّ القرارات “الترامبية” الأشد عنفًا وتطرّفًا هي تلك التي تتعلق بما يسمى: (الحقوق الرقمية).
ماذا يقصد بالحقوق الرقمية؟
بعد دخول البشرية عالم الإنترنت؛ تُعَدُّ الحقوق الرقمية الامتداد الطبيعيّ لحقوق الإنسان، وإن شئت فقل: إنّها التمدد التلقائي للحقوق الطبيعية للإنسان في العالم الافتراضي الرقمي، فمن حقّ كلّ إنسان أن يستخدم الإنترنت بحرية دون تقييد من أيّ جهة، بشرط ألّا يتعدّى بهذا الاستخدام على حقوق الآخرين وحريّاتهم، وهذا حقّ تضمنه المواثيق الدولية العامة وعلى رأسها ميثاق الأمم المتحدة، وتضمنه الشريعة الإسلامية بالشرط الآنف مع شرط آخر جوهري وهو عدم المصادمة لشريعة الله تعالى، ومن حقّ كلّ مستخدم للإنترنت ألا تنتهك خصوصيّته؛ لأن في ذلك تعدّ عليه واستباحة لعرضه وكرامته واقتحامًا لجزء من أسراره بغير رضاه، وقد حرصت شريعة الإسلام قبل جميع المواثيق على حماية الخصوصية؛ بتحريمها للتجسس في نصوص من القرآن والسنة صريحة وعامّة، كما أنّ من حقه تأمين طريق الوصول إلى المعلومة ولاسيما التي تتعلق بالشأن العام والمصالح العامة التي هو شريك فيها، ومن حقه كذلك التعبير بحرية عن رأيه بما لا يكون فيه تعدٍّ على حرمات الله وحرمات خلق الله، فلا حجر على الرأي ولا تكميم للأفواه، ولا تَتَبُّع ولا تهديد لمن يقول رأيه ولو بنقد يوجهه للسلطة الحاكمة، تلك هي بإيجاز أهم الحقوق الرقمية.
التحول الكبير الذي جرى على يد الإدارة الجديدة
لأكثر من عقدين؛ وضعت الولايات المتحدة نفسها في موضع الحامل والحامي للمعايير العالمية لحرية الإنترنت والحقوق الرقمية، ولسنوات عديدة ظلت الولايات المتحدة المدافع الأول – وإن كان دفاعها معيبًا ومنحازًا – عن هذه الحرية وهذه الحقوق، فقد وقفت حكومة الولايات المتحدة – على الأقل بلاغيًّا – من أجل الإنترنت الحرّ الذي تحكمه حقوق الإنسان، وليس الذي تتحكم فيه سيادة الدول، الآن انتهت تلك الحقبة، لقد أفسدت الولايات المتحدة البنية التحتية ذاتها التي بنتها ذات مرة، فتم إغلاق المكاتب التي تدافع عن التشارك متعدد الأطراف، وعن البرامج العالمية، وعن التكنولوجيا القائمة على الحقوق، كما تم استيعابها في كتل بيروقراطية غامضة، تدندن طوال الوقت حول “القيم الغربية”.
في أثناء ذلك، تم إلغاء تمويل أدوات التشفير مفتوحة المصدر، وتفريغ مركز المشاركة العالمي، الذي كان مكلفا سابقا بمواجهة القمع المدعوم من الدولة عبر الإنترنت، وإعادة توجيهه للتركيز فقط على التهديدات العدائية للدولة، كما تم إسقاط شراكات المجتمع المدني، ولم تعد الدبلوماسية الرقمية مؤطرة بالحقوق، ولكن بالسلطة، ولم تخف الإدارة الأمريكية هذا التحول؛ لأنّ هدفها في إعادة توجيه السياسة الخارجية الأمريكية بعيدا عن الهندسة الاجتماعية العالمية هدف معلن في سياستها الجديدة، وهذا يعني اهتماما أقل بحقوق الإنسان، ومزيدا من التركيز على المنافسة الصفرية بين القوى الكبرى.
البنية التحتية لحقوق الإنسان بين المركزية المغلقة واللامركزية المرنة
ليس الإنترنت مجرد منصة أو سوق؛ إنه نظام قوة وهيمنة، إنه ساحة معركة للسيطرة وفرض السيادة، لطالما عكس الهيكل اللامركزي للإنترنت العالمي، والمكون من شبكات تعمل مترابطة وعن طواعية بشكل مستقل، رؤية للحرية عالية السقف؛ حيث الوصول – غير المتوقف على تصريح – إلى المعلومة، وحيث الوكالة الموزعة بعفوية وتلقائية، إنه هيكل يقاوم المركزية ولاسيما التي تأتي حسب التصميم، لقد قامت هذه المقاومة تاريخيًّا بمواءمة الإنترنت مع مبادئ حقوق الإنسان، فمن الناحية العملية هذا يعني أن المسلمين المضطهدين في (ميانمار) – مثلا – يمكنهم الوصول إلى الحلفاء في الخارج حتى عندما تمارس وسائل الإعلام التضليل؛ ويعني أن الفئات المهمشة يمكنها بناء مجتمع خارج الحدود؛ ويعني أن الأنظمة القمعية تواجه صعوبة في محو الحقائق الفاضحة لها، والأهم من ذلك أنه لا يمكن لسلطة واحدة أن تملي من جانب واحد المعلومات التي يمكن للناس رؤيتها أو مشاركتها، هذه الهندسة المعمارية يجب الدفاع عنها حتمًا.
موقف الشريعة الإسلامية من الحقوق الرقمية
إنّ الحقوق الرقمية ليست مجرد امتيازات تقنية، بل هي امتدادٌ للكرامة الإنسانية التي برزت في كتاب الله وتبدّت في صفحاته، قال تعالى: “وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً”، والشريعة الإسلامية – بعنايتها بالإنسان وبما تحمله من عدالة ورحمة – قادرة على تقديم نموذج أخلاقي وتشريعي يُنظم هذه الحقوق، ويُرشد البشرية في عالمٍ تتسارع فيه التقنية وتغيب فيه القيم، إن التفاعل بين الفقه الإسلامي والتقنين المعاصر ليس خيارًا، بل ضرورة حضارية تضمن للإنسان أن يبقى إنسانًا، حتى في أكثر البيئات الرقمية تعقيدًا.
ولو أنّنا استعرضنا فقط بعض القواعد الكلية التي قررها العلماء من خلال استقرائهم لفروع الشريعة ومصادرها ومواردها؛ لتبين لنا كم هي الشريعة قادرة على وضع الأطر الحكمية والأخلاقية والسلوكية الحاكمة لكل ما يستجد من تقنيات مهما كان تعقيدها وتطورها!
فعلى سبيل المثال توجد قاعدة نفي الضرر، التي جاءت بهذا النصّ: “لا ضرر ولا ضرار”، أيّ لا يجوز إحداث الضرر ابتداء ولا مقابلة الضرر بالضرر، وقاعدة: “الأصل الحرية”، وقاعدة “الأصل الإباحة”، وقاعدة “اليقين لا يزول بالشك” وقاعدة “الأمور بمقاصدها”، وغيرها من القواعد، بل إنّ القرآن تولى تقرير ذلك بنصوصه الصريحة.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق