الاثنين، 3 فبراير 2014

ديكورات الديمقراطية

ديكورات الديمقراطية
فهمي هويدي


لم يخطئ أي من الرجلين: لا من قال إن المجلس القومي لحقوق الإنسان مجرد «ديكور»، ولا من قال إن حقوق الإنسان في مصر في محنة.
والوصف الأول أطلقه الأستاذ نجاد البرعي المحامي في تبرير استقالته من عضوية المجلس المذكور، أما الوصف الثاني فقد جاء في تعليق الأستاذ عبدالغفار شكر نائب رئيس المجلس على كلام الأستاذ البرعي. (جريدة الأهرام ــ 30/1/2014)
 والكلمتان لا تشخصان فقط أوضاع منظمات حقوق الإنسان وحدها، وإنما تسلطان الضوء على أكثر من أزمة مسكوت عليها. فالكلام ينطبق على معظم المنظمات العاملة في مجال الحقوق والحريات، فضلا عن أنه ينبهنا إلى تجليات أزمة الديمقراطية المنقوصة أو المزيفة في دول العالم الثالث.
شواهد الأزمة ماثلة بين أيدينا ووقائعها لا تزال حية في الذاكرة المصرية. ذلك أننا تابعنا خلال السنوات الثلاث التي أعقبت ثورة يناير كما هائلا من الانتهاكات، التي كانت منظمات حقوق الإنسان هي الغائب الأكبر عنها. وباستثناء جهود فردية متواضعة سجلت ووثقت بعض وقائع تلك الانتهاكات، فربما كانت آثارها قد محيت أو جرت صياغتها على نحو جديد يستجيب للأهواء والحسابات السياسية، وقد بلغت تلك الانتهاكات ذروتها خلال الأشهر السبعة الأخيرة التي وصل فيها عدد القتلى إلى أكثر من 2600 شخص، غير نحو 16 ألف مصاب وأكثر من 21 ألف معتقل.
وحسب تقدير بعض المواقع المستقلة ففي الذكرى الثالثة للثورة وحدها ــ خلال يومي 24 و25 يناير ــ قتل 103 أشخاص، وألقى القبض على 67 من القُصّر الذين تقل أعمارهم عن 18 عاما، كما وصلت أعداد السيدات والفتيات المعتقلات إلى أكثر من 60 واحدة. والشائعات كثيرة حول سوء معاملة الجميع في داخل السجون والمعتقلات فضلا عن عذابات المرضى وكبار السن.
إذا وضعت هذه الصورة الأخيرة جنبا إلى جنب مع الفظائع التي حدثت إبان فض الاعتصامات، ولاحظت الصمت المدهش من جانب المجلس القومي لحقوق الإنسان والمنظمات الحقوقية الأخرى، فلن تخطئ إذا اعتبرت تلك المنظمات شريكة بالصمت في مواجهة الجرائم والانتهاكات التي حدثت.
وستقدر عاليا جهود الشرفاء الذين رفضوا التواطؤ على الصمت وبذلوا جهودا كبيرة في حصر أسماء الضحايا وتوثيق حالاتهم، ودفعوا لقاء ذلك أثمانا غالية.
فيما عدا ذلك، فإنك لن تستطيع أن تجد تفسيرا مقنعا لصمت المجلس القومي لحقوق الإنسان أو المنظمات الحقوقية الأخرى، ولا لسكوت المجلس القومي للمرأة أو الطفل، سوف تضم كل تلك الهياكل إلى سجل «الديكورات» المقامة لتجميل الوضع العام في المحافل الدولية.
لا أعرف كم تتكلف خزينة الدولة مقابل هذه «المنظرة»، 
لكنني قرأت في الحوار الذي أجري مع الأستاذ نجاد البرعي أن الميزانية السنوية للمجلس القومي لحقوق الإنسان وحده تقدر بـ51 مليون جنيه، وإذا أضفت إلى ذلك مخصصات المجالس الأخرى فسوق تكتشف مدى السَفَه الذي نمارسه لأجل التجميل أمام الأجانب.
إننا حين نتعمق في الأمر أكثر سنجد أن المشكلة ليست فقط في عجز تلك الهياكل «الديكورية»، ولكنها أيضا في الأنظمة السياسية التي تحرص على التجمل بأمثال تلك «الديكورات»، التي تخفي بها قبضتها على السلطة والمجتمع.
وهو ما يثيره أساتذة الاجتماع السياسي ممن تحدثوا عن الديمقراطية المعدلة التي تقيمها أغلب أنظمة العالم الثالث، حين تفصل بين الديمقراطية والليبرالية.
وتلجأ في ذلك إلى الحفاظ على الشكل عبر إقامة الهياكل الديمقراطية في حين تصادر الوظيفة وتفرغ الديمقراطية من وظيفتها، وفي ظل هذا الوضع تتوافر للبلد كل مقومات الشكل الديمقراطي: الأحزاب السياسية والمجالس المنتخبة والمؤسسات التي ترفع رايات الاستقلال، من الجامعات إلى الإعلام مرورا بالقضاء، وصولا إلى المنظمات الحقوقية والمدافعة عن الحريات العامة...إلخ. إلا أن القرار النهائي والأخير يظل بيد السلطة المركزية صاحبة الأمر والنهي.
قرأت تصريحا لوزير الداخلية المصري ذكر فيه أن كل قسم شرطة به مكتب لحقوق الإنسان، وهو ما ذكرني بلقاء عربي شاركت فيه قبل عدة سنوات، قال فيه مسؤول تونسي إن نظام الرئيس (السابق) ابن علي يولي رعاية كبيرة لحقوق الإنسان، بدليل رعايته الخاصة للمنظمة الوطنية المعنية بهذه المسألة، ووجود مكتب لحقوق الإنسان في كل وزارة وفي كل قسم شرطة، حينذاك لم أستطع أن أمنع نفسي من التعليق فقلت إن الشيء الوحيد الناقص في هذه الصورة هو حقوق الإنسان ذاتها.
إن المشكلة ليست فقط في عجز وعدم فاعلية المنظمات الحقوقية وغيرها من الهياكل الديمقراطية ولكنها تكمن أساسا في غياب الحريات العامة التي هي البيئة الأساسية التي تستدعى تلك المنظمات وتنعش دورها.
وحين تصادر تلك الحريات تجف منابع الديمقراطية وتصبح تلك المنظمات مجرد لافتات وهياكل فارغة بلا دور أو قيمة.
وللأسف فإن بعض النخب تستسلم للغواية وتقبل بالمشاركة في الملهاة، ومن ثم لا تمانع من الانضمام إلى مكونات الديكور الديمقراطي. وهؤلاء يشاركون ليس فقط في إماتة تلك المنظمات ولكن أيضا في تزوير الديمقراطية ذاتها.
لقد أحزنني ما قرأته على لسان الأستاذ عبدالغفار شكر في جريدة الأهرام حين قال إنه لا يستطيع أن يطالب الحكومة المصرية بمنع القبض على المتظاهرين وبعضهم يحمل أسلحة وقنابل مولوتوف ويعتدي على الناس. ذلك أنني لم أتوقع من مناضل يساري له تاريخه الحافل أن يحدثنا بلغة رجال الأمن بعد تعيينه نائبا لمجلس حقوق الإنسان. متجاهلا أن المتظاهرين الذين قتل منهم أكثر من مائة في الذكرى الثالثة للثورة لم يحملوا سلاحا ولم يعتدوا على أحد، الأمر الذي جعله يتهم الضحية ويبرئ الجناة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق