"لم يكن هناك شيء بعينه من تعاليم الإسلام هو الذي أخذ بمجامع قلبي، إنه المجموع المتكامل المتناسب والمتماسك من هذه التعاليم الروحية من جانب، والتي ترسم برنامجا عمليا للحياة من الجانب الآخر".
بتلك العبارات عبّر المفكر والسياسي "ليوبولد فايس" -والذي حمل بعد اعتناقه الإسلام اسم "محمد أسد"- عن أحد أوجه جاذبية الإسلام، المتمثل في الشمولية واستيعاب كافة الجوانب الإنسانية.
من بين هذه الجوانب التي استوعبها الإسلام بشموليته، هو الجانب الخاص بالتصورات وإدراك العلاقة بين الإنسان والوجود، فهو المنهج الأوحد الذي يقدم للجنس البشري تصورات واضحة عن علاقة الإنسان بخالقه، وعلاقته بهذا الكون في عالمي الغيب والشهادة.
لقد كانت تلك النقطة هي منطلق اليهودية الأمريكية "مارغريت ماركوس" نحو اعتناق الإسلام، حيث أجاب على تساؤلاتها الهائمة عن الموت والحياة، لتصبح من بعدها داعية وكاتبة إسلامية واعية تركت تراثا فكريا عميقا.
إنها الكاتبة الأمريكية المسلمة "مريم جميلة" هل تعرفها؟ إن كنت سمعت بها من قبل فاحمد الله على نعمة الوعي والاهتمام برموز الأمة، وإن كنت لا تعرفها فما تخطيت السياق العام لأمتك التي تجهل رموزها، وتعرف فقط من هو "ميسي" و"رونالدو" و"جون سينا" و"نيكول كيدمان".
وُلدت "مريم جميلة" (أو مارغريت ماركوس) في نيويورك عام 1934م، لأبوين يهوديين من أصل ألماني، وكانت نشأتها الأولى تنبئ بأن العناية الإلهية تتغمدها، فكانت شيئا متفردا في بيئة طغت عليها المادية، وسادت فيها الترجمات المحمومة لنظريات دارون وفرويد، فلم تشرب خمرا، ولم تتخذ صديقا، ولم تعبث بعقلها دعواتُ قطع الصلة بين الإنسان وبين مؤثر علوي.
ولنا أن نعجب لنشأة مريم المتفردة، عندما ندرك أنها لم تتأثر حتى بنظرة والدها - الذي رباها -حول علاقة الإنسان بالحياة، فكان يقول لها: "لا توجد قيم مطلقة، وإنما المهم أن يعيش الإنسان حياته متمتعا بقرب الأهل والأصدقاء ورفاهية العيش".
كانت معضلة إدراك حقيقة الحياة والموت تؤرق "مريم"، ولم تجد لها إجابة شافية يطمئن لها قلبها إلا بعد التعرف على القرآن، وتكوين تصورات واضحة لديها لما تبحث عنه.
إن السعادة مرهونة بالوضوح وإزالة الغموض، ولذا قدمت العقيدة الإسلامية تفسيرات اطمأن لها قلب مريم، فكانت كما قال الدكتور يوسف القرضاوي في نظمه:
إن السعادة أن تعيش لفكرة الحق التليد
لعقيدة كبرى تحل قضية الكون العتيد
وتجيب عما يسأل الحيران في وعي رشيد
من أين جئت؟ وأين أذهب؟ لم خُلقت؟ وهل أعود؟
تقول مريم جميلة: "لقد وضع الإسلام حلولا لكل مشكلاتي وتساؤلاتي الحائرة حول الموت والحياة.. وأعتقد أن الإسلام هو السبيل الوحيد للصدق، وهو أنجع علاج للنفس الإنسانية".
ومما أسهم في إيجاد الرغبة لديها في التعرف على الإسلام، ما كشفته من أحقاد بعض اليهود تجاه المسلمين، ولدى قرار تقسيم فلسطين 1947م شهدت والديها يبتهجان ويحتفلان بهذه المناسبة، ويجمعان التبرعات لإقامة دولة إسرائيل، ثم الاحتفال بعد ذلك بهزيمة العرب أمام الصهاينة في نكبة 1948م، وهالها قيام دولة يهودية على أشلاء وجراحات وآلام الفلسطينيين.
قادتها تلك المفارقات إلى قراءات متعمقة في ترجمة معاني القرآن للبريطاني المسلم "مارمادوك بكتال" والتي تميزت بانفكاكها عن التأثر بالنظرة الغربية، وهو الأمر الذي لمسته مريم لدى مقارنتها بتراجم أخرى لمعاني القرآن تأثرت بتلك النظرة الغربية الساخطة على الإسلام.
اقتنت بعدها كتابا في الحديث النبوي "مشكاة المصابيح للخطيب التبريزي"، وكان لذلك أكبر الأثر في تكوينها العلمي السليم، الذي يعتبر القرآن والسنة معا مصدرا للتلقي والاستقاء، لا يصلح الاعتماد على أحدهما دون الآخر، فكلاهما وحي من عند الله.
لقد أدركت مريم جميلة تلك الحقيقة التي أهملها وتجاهلها كثير من المفكرين والمثقفين في أمتنا، والذين يسعون بقصد وغير قصد إلى اختزال الدين ونسف مكوناته، من خلال الدعوة إلى الاكتفاء بالقرآن، فكانت تقول: "كيف يمكن الدخول إلى القرآن الكريم إلا من خلال السنة النبوية؟! فمن يكفر بالسنة لا بد أنه سيكفر بالقرآن".
أثناء دراستها الجامعية مرضت "مريم" وانقطعت عامين عن الدراسة، في تلك الفترة تجاذبتها الوساوس والأوهام حتى كادت تقع في براثن الإلحاد، لولا أن تغمدها الله برحمته وعنايته، وألهمها الاتجاه إلى مزيد من القراءات المطولة عن الإسلام.
وبعد عودتها إلى الدراسة، التقت زميلة يهودية كانت تعتزم اعتناق الإسلام، فعرفتها الأخيرة بأصدقاء لها من العرب المسلمين في نيويورك.
وفي يوم الخميس الخامس والعشرين من مايو عام 1961، أعلنت مريم جميلة إسلامها في مقر البعثة الإسلامية في بروكلين، وكان يوم عيد في حياتها، اجتمع مع أول أيام عيد الأضحى.
انطلقت مريم بعد إسلامها لمزيد من التعمق في الفكر الإسلامي عن طريق التواصل مع أبرز مفكري وقادة العمل الإسلامي، كان منهم البشير الإبراهيمي في الجزائر، وسيد قطب من مصر، لكن نقطة التحول والنضج الفكري لدى مريم، كان تلك المراسلات التي جرت بينها وبين أبي الأعلى المودودي، مؤسس الجماعة الإسلامية في شبه القارة الهندية، والذي دعاها للقدوم إلى باكستان، فسافرت في العام التالي لإسلامها.
لقد بدا للمودودي من خلال المراسلات، حجم ثقافة مريم جميلة، والذي ظهر من خلال أسئلتها العميقة رغم أنها لم تكن اعتنقت الإسلام بعد.
كانت أسئلتها غالبا ما تدور حول الشخصيات ذات الأيديولوجيات المختلفة، فتسأل عن شاعر الإسلام الهندي محمد إقبال، حول انتصاره في بعض أشعاره للوطنية والقومية، فيضيف لها المودودي ما تكتمل بها رؤيتها تجاه تقييم إقبال.
تسأل عن جمال عبد الناصر، بعد أن طرحت رؤيتها بأنه يسعى لمجد شخصي عبر مشروع قومي، وهو ما وافقها عليه المودودي.
وسألته عن علمانية أتاتورك الوحشية، وأبدت رأيها في بديع الزمان النورسي، حيث رأت أنه كان سببا في الحفاظ على إسلام الأتراك بعد سقوط الخلافة.
فكانت المراسلات تكشف عن أساس ثقافي متين لمريم، أضاف إليه المودودي من سعة علمه وعمق أفكاره، ما أثّر بقوة في صياغة شخصيتها العلمية والفكرية والمنهجية.
مريم جميلة لم تدخل الإسلام بمنطق تحصيل المنفعة، ولا هروبا من عدم التكيف مع ثقافتها وبيئتها، وإنما كان بمنطق واع ينزع إلى الوصول إلى الحقيقة من كافة زواياها، يقول د. محمد يحيى خلال عرضه لكتابها "رحلتي من الكفر إلى الإيمان": "ليست مريم جميلة عنصرا سحقته الحضارة الغربية كما سحقت آلافا أو ملايين من أبنائها فبحثوا الملاذ في الجنس الحيواني أو المخدرات أو الأديان الشرقية، إنها صاحبة اختيار واع وعقل يقظ يجسده مؤلفها بما يحتويه من من تحليلات متعمقة ونظرات ثاقبة".
تلك النظرة الواعية كانت عصمة لها من الانتكاس عند اصطدامها بواقع المسلمين، والذي كشف الهوة السحيقة بين تعاليم الإسلام والتزام أبنائه بها.
كانت أولى الصدمات دخولها المركز التجاري التونسي في نيويورك ورؤيتها الخمور تملأ كل أرجائه، وفوجئت بموظفة في المركز تخبرها أن الرئيس التونسي بورقيبة بدأ مرحلة جديدة من إقصاء الدين عن واقع الحياة التونسية.
ذات الصدمة تلقتها عندما بحثت عن عمل في المركز العربي بنيويورك، وهنالك أعرضوا عنها بعد علمهم أنها تحمل أفكارا مناهضة لتوجهات جمال عبد الناصر، وهو ما أشار إليه ذاكر الأعظمي في كتابه "مريم جميلة المهاجرة من اليهودية إلى الإسلام...".
لقد عانت مريم كثيرا من الساعين لتكدير صفاء الابتداء لديها، وتلطيخه بالأفكار العلمانية والتغريبية، إلا أن تواصلها مع رموز العمل الإسلامي، وسعة اطلاعها الموضوعي، ونضجها العقلي، حال دون تلوث أفكارها.
لقد عصم الله مريم بهذه الأسباب من الاستجابة لنعرات العلمانية وفصل الدين عن شؤون الحياة، واختزال الإسلام في بعض الشعائر، ويظهر ذلك في مقالاتها ورسائلها حيث تقول: "اتبعوا هدي القرآن والسنة، ليس كمجموعة من الشعائر فقط، بل كمرشد علمي للسلوك في حياتنا اليومية الخاصة والعامة".
كان منهج مريم جميلة في دعوة الغرب إلى الإسلام يرتكز على البيان التفصيلي بالأدلة والبراهين على وهن الحياة في ظل الديانات الأخرى، وبيان عظمة الإسلام ليس عن طريق القول المجرد بأنه المنهج الأسمى، وإنما بطرح جزئياته وجوانبه ومبادئه وجوهره الذي تكتمل به الحياة البشرية.
فارقت مريم جميلة الحياة في أكتوبر 2012 عن عمر يناهز 78 عاما في باكستان، وقد خلفت تراثا فكريا ودعويا يصل إلى قرابة 25 كتابا، إضافة إلى المقالات والرسائل التي كانت نتاج ثقافة واعية وتجارب طويلة في حقل العمل الإسلامي.
وفي النهاية أجد نفسي كالعادة لدى حديثي عن عظماء أمتي، أنني بالفعل لم أكتب شيئا، غير أن عزائي الوحيد، التعريف بهذا الرمز الإسلامي الذي يجهله الكثيرون من أبناء الأمة... حتى لا تندثر الرموز.
بتلك العبارات عبّر المفكر والسياسي "ليوبولد فايس" -والذي حمل بعد اعتناقه الإسلام اسم "محمد أسد"- عن أحد أوجه جاذبية الإسلام، المتمثل في الشمولية واستيعاب كافة الجوانب الإنسانية.
من بين هذه الجوانب التي استوعبها الإسلام بشموليته، هو الجانب الخاص بالتصورات وإدراك العلاقة بين الإنسان والوجود، فهو المنهج الأوحد الذي يقدم للجنس البشري تصورات واضحة عن علاقة الإنسان بخالقه، وعلاقته بهذا الكون في عالمي الغيب والشهادة.
لقد كانت تلك النقطة هي منطلق اليهودية الأمريكية "مارغريت ماركوس" نحو اعتناق الإسلام، حيث أجاب على تساؤلاتها الهائمة عن الموت والحياة، لتصبح من بعدها داعية وكاتبة إسلامية واعية تركت تراثا فكريا عميقا.
إنها الكاتبة الأمريكية المسلمة "مريم جميلة" هل تعرفها؟ إن كنت سمعت بها من قبل فاحمد الله على نعمة الوعي والاهتمام برموز الأمة، وإن كنت لا تعرفها فما تخطيت السياق العام لأمتك التي تجهل رموزها، وتعرف فقط من هو "ميسي" و"رونالدو" و"جون سينا" و"نيكول كيدمان".
وُلدت "مريم جميلة" (أو مارغريت ماركوس) في نيويورك عام 1934م، لأبوين يهوديين من أصل ألماني، وكانت نشأتها الأولى تنبئ بأن العناية الإلهية تتغمدها، فكانت شيئا متفردا في بيئة طغت عليها المادية، وسادت فيها الترجمات المحمومة لنظريات دارون وفرويد، فلم تشرب خمرا، ولم تتخذ صديقا، ولم تعبث بعقلها دعواتُ قطع الصلة بين الإنسان وبين مؤثر علوي.
ولنا أن نعجب لنشأة مريم المتفردة، عندما ندرك أنها لم تتأثر حتى بنظرة والدها - الذي رباها -حول علاقة الإنسان بالحياة، فكان يقول لها: "لا توجد قيم مطلقة، وإنما المهم أن يعيش الإنسان حياته متمتعا بقرب الأهل والأصدقاء ورفاهية العيش".
كانت معضلة إدراك حقيقة الحياة والموت تؤرق "مريم"، ولم تجد لها إجابة شافية يطمئن لها قلبها إلا بعد التعرف على القرآن، وتكوين تصورات واضحة لديها لما تبحث عنه.
إن السعادة مرهونة بالوضوح وإزالة الغموض، ولذا قدمت العقيدة الإسلامية تفسيرات اطمأن لها قلب مريم، فكانت كما قال الدكتور يوسف القرضاوي في نظمه:
إن السعادة أن تعيش لفكرة الحق التليد
لعقيدة كبرى تحل قضية الكون العتيد
وتجيب عما يسأل الحيران في وعي رشيد
من أين جئت؟ وأين أذهب؟ لم خُلقت؟ وهل أعود؟
تقول مريم جميلة: "لقد وضع الإسلام حلولا لكل مشكلاتي وتساؤلاتي الحائرة حول الموت والحياة.. وأعتقد أن الإسلام هو السبيل الوحيد للصدق، وهو أنجع علاج للنفس الإنسانية".
ومما أسهم في إيجاد الرغبة لديها في التعرف على الإسلام، ما كشفته من أحقاد بعض اليهود تجاه المسلمين، ولدى قرار تقسيم فلسطين 1947م شهدت والديها يبتهجان ويحتفلان بهذه المناسبة، ويجمعان التبرعات لإقامة دولة إسرائيل، ثم الاحتفال بعد ذلك بهزيمة العرب أمام الصهاينة في نكبة 1948م، وهالها قيام دولة يهودية على أشلاء وجراحات وآلام الفلسطينيين.
قادتها تلك المفارقات إلى قراءات متعمقة في ترجمة معاني القرآن للبريطاني المسلم "مارمادوك بكتال" والتي تميزت بانفكاكها عن التأثر بالنظرة الغربية، وهو الأمر الذي لمسته مريم لدى مقارنتها بتراجم أخرى لمعاني القرآن تأثرت بتلك النظرة الغربية الساخطة على الإسلام.
اقتنت بعدها كتابا في الحديث النبوي "مشكاة المصابيح للخطيب التبريزي"، وكان لذلك أكبر الأثر في تكوينها العلمي السليم، الذي يعتبر القرآن والسنة معا مصدرا للتلقي والاستقاء، لا يصلح الاعتماد على أحدهما دون الآخر، فكلاهما وحي من عند الله.
لقد أدركت مريم جميلة تلك الحقيقة التي أهملها وتجاهلها كثير من المفكرين والمثقفين في أمتنا، والذين يسعون بقصد وغير قصد إلى اختزال الدين ونسف مكوناته، من خلال الدعوة إلى الاكتفاء بالقرآن، فكانت تقول: "كيف يمكن الدخول إلى القرآن الكريم إلا من خلال السنة النبوية؟! فمن يكفر بالسنة لا بد أنه سيكفر بالقرآن".
أثناء دراستها الجامعية مرضت "مريم" وانقطعت عامين عن الدراسة، في تلك الفترة تجاذبتها الوساوس والأوهام حتى كادت تقع في براثن الإلحاد، لولا أن تغمدها الله برحمته وعنايته، وألهمها الاتجاه إلى مزيد من القراءات المطولة عن الإسلام.
وبعد عودتها إلى الدراسة، التقت زميلة يهودية كانت تعتزم اعتناق الإسلام، فعرفتها الأخيرة بأصدقاء لها من العرب المسلمين في نيويورك.
وفي يوم الخميس الخامس والعشرين من مايو عام 1961، أعلنت مريم جميلة إسلامها في مقر البعثة الإسلامية في بروكلين، وكان يوم عيد في حياتها، اجتمع مع أول أيام عيد الأضحى.
انطلقت مريم بعد إسلامها لمزيد من التعمق في الفكر الإسلامي عن طريق التواصل مع أبرز مفكري وقادة العمل الإسلامي، كان منهم البشير الإبراهيمي في الجزائر، وسيد قطب من مصر، لكن نقطة التحول والنضج الفكري لدى مريم، كان تلك المراسلات التي جرت بينها وبين أبي الأعلى المودودي، مؤسس الجماعة الإسلامية في شبه القارة الهندية، والذي دعاها للقدوم إلى باكستان، فسافرت في العام التالي لإسلامها.
لقد بدا للمودودي من خلال المراسلات، حجم ثقافة مريم جميلة، والذي ظهر من خلال أسئلتها العميقة رغم أنها لم تكن اعتنقت الإسلام بعد.
كانت أسئلتها غالبا ما تدور حول الشخصيات ذات الأيديولوجيات المختلفة، فتسأل عن شاعر الإسلام الهندي محمد إقبال، حول انتصاره في بعض أشعاره للوطنية والقومية، فيضيف لها المودودي ما تكتمل بها رؤيتها تجاه تقييم إقبال.
تسأل عن جمال عبد الناصر، بعد أن طرحت رؤيتها بأنه يسعى لمجد شخصي عبر مشروع قومي، وهو ما وافقها عليه المودودي.
وسألته عن علمانية أتاتورك الوحشية، وأبدت رأيها في بديع الزمان النورسي، حيث رأت أنه كان سببا في الحفاظ على إسلام الأتراك بعد سقوط الخلافة.
فكانت المراسلات تكشف عن أساس ثقافي متين لمريم، أضاف إليه المودودي من سعة علمه وعمق أفكاره، ما أثّر بقوة في صياغة شخصيتها العلمية والفكرية والمنهجية.
مريم جميلة لم تدخل الإسلام بمنطق تحصيل المنفعة، ولا هروبا من عدم التكيف مع ثقافتها وبيئتها، وإنما كان بمنطق واع ينزع إلى الوصول إلى الحقيقة من كافة زواياها، يقول د. محمد يحيى خلال عرضه لكتابها "رحلتي من الكفر إلى الإيمان": "ليست مريم جميلة عنصرا سحقته الحضارة الغربية كما سحقت آلافا أو ملايين من أبنائها فبحثوا الملاذ في الجنس الحيواني أو المخدرات أو الأديان الشرقية، إنها صاحبة اختيار واع وعقل يقظ يجسده مؤلفها بما يحتويه من من تحليلات متعمقة ونظرات ثاقبة".
تلك النظرة الواعية كانت عصمة لها من الانتكاس عند اصطدامها بواقع المسلمين، والذي كشف الهوة السحيقة بين تعاليم الإسلام والتزام أبنائه بها.
كانت أولى الصدمات دخولها المركز التجاري التونسي في نيويورك ورؤيتها الخمور تملأ كل أرجائه، وفوجئت بموظفة في المركز تخبرها أن الرئيس التونسي بورقيبة بدأ مرحلة جديدة من إقصاء الدين عن واقع الحياة التونسية.
ذات الصدمة تلقتها عندما بحثت عن عمل في المركز العربي بنيويورك، وهنالك أعرضوا عنها بعد علمهم أنها تحمل أفكارا مناهضة لتوجهات جمال عبد الناصر، وهو ما أشار إليه ذاكر الأعظمي في كتابه "مريم جميلة المهاجرة من اليهودية إلى الإسلام...".
لقد عانت مريم كثيرا من الساعين لتكدير صفاء الابتداء لديها، وتلطيخه بالأفكار العلمانية والتغريبية، إلا أن تواصلها مع رموز العمل الإسلامي، وسعة اطلاعها الموضوعي، ونضجها العقلي، حال دون تلوث أفكارها.
لقد عصم الله مريم بهذه الأسباب من الاستجابة لنعرات العلمانية وفصل الدين عن شؤون الحياة، واختزال الإسلام في بعض الشعائر، ويظهر ذلك في مقالاتها ورسائلها حيث تقول: "اتبعوا هدي القرآن والسنة، ليس كمجموعة من الشعائر فقط، بل كمرشد علمي للسلوك في حياتنا اليومية الخاصة والعامة".
كان منهج مريم جميلة في دعوة الغرب إلى الإسلام يرتكز على البيان التفصيلي بالأدلة والبراهين على وهن الحياة في ظل الديانات الأخرى، وبيان عظمة الإسلام ليس عن طريق القول المجرد بأنه المنهج الأسمى، وإنما بطرح جزئياته وجوانبه ومبادئه وجوهره الذي تكتمل به الحياة البشرية.
فارقت مريم جميلة الحياة في أكتوبر 2012 عن عمر يناهز 78 عاما في باكستان، وقد خلفت تراثا فكريا ودعويا يصل إلى قرابة 25 كتابا، إضافة إلى المقالات والرسائل التي كانت نتاج ثقافة واعية وتجارب طويلة في حقل العمل الإسلامي.
وفي النهاية أجد نفسي كالعادة لدى حديثي عن عظماء أمتي، أنني بالفعل لم أكتب شيئا، غير أن عزائي الوحيد، التعريف بهذا الرمز الإسلامي الذي يجهله الكثيرون من أبناء الأمة... حتى لا تندثر الرموز.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق