تجفيف النيل وتعطيش مصر
عامر عبد المنعم
موضوع سد النهضة ليس مجرد رغبة أثيوبية في بناء سد خاص بها لتوليد الطاقة، وإنما هو بداية لنوع جديد من السيطرة الغربية على الأنهار والسدود ووضع اليد على مصادر المياه في دول العالم الثالث، للتحكم في حياة الأمم والشعوب، فالشركات الأمريكية والأوربية تسعى لامتلاك السدود وخصخصة مياه الشرب والري، بمساندة المؤسسات الدولية كالبنك الدولي وصناديق الإقراض الدولية التي تعمل على نقل ملكية المشروعات المائية من الدول إلى الشركات عابرة الجنسيات والوكلاء الذين تم تجهيزهم لهذه المهمة.
بسبب الرغبة الجامحة من الرأسمالية الجشعة فإن الاستثمارات الأجنبية الغربية التي تسيطر على ثروات العالم الثالث مثل النفط والغاز والمواد الخام وغيرها، تريد تحويل المياه من حق إنساني إلى سلعة، لجني الأرباح وحصد المزيد من الأموال، وسيعرض الماء الذي هو هبة الله للبشرية في البورصة، مثله مثل أي منتج يكسبون من ورائه المليارات ويمتصون دماء الشعوب المستضعفة.
بالنسبة لنهر النيل خصوصا فإن هذه الرغبة الغربية تلتقي مع أطماع المخططين الصهاينة لإجبار مصر على مد الكيان الإسرائيلي بحصة من المياه، وهو ما اتفق الإسرائيليون عليه مع الرئيس المصري الأسبق أنور السادات، من خلال ماعرف بترعة السلام، والذي تعثر ولم يكتمل بسبب الرفض الشعبي المصري للفكرة من أساسها، ولم يكن الجانب الإسرائيلي يملك أوراق الضغط الكافية لتمريره وإجبار الجانب المصري على التنفيذ.
السيطرة على منابع النيل
لأهمية النيل لمصر أرسل محمد علي الجيش المصري إلى منابع النهر، وقام بتوسيع حدود الدولة المصرية جنوبا، لضمان تأمين تدفق المياه في الوادي، فضم السودان وأجزاء من أثيوبيا، ثم جاء الخديوي إسماعيل وأوصل النفوذ المصري إلى أبعد من ذلك، وقام بالمزيد من التوسع حتى أعالي النيل، فوصل إلى أوغندا، وأسس ما عرف بمديرية خط الاستواء، وتوسع شرقا فمد سلطة الدولة المصرية إلى مدخل البحر الأحمر، وضم الصومال وسيطر على القرن الإفريقي، ليضمن أمن الملاحة إلى ما بعد مضيق باب المندب، وظلت الرقعة الجغرافية التي يجري فيها النيل خاضعة للحكم المصري حتى احتلال الانجليز لمصر في عام 1882 الذين عملوا من يومها على طرد مصر من منابع النيل ومن مدخل البحر الأحمر، واستمر الحال حتى اتفاقية سايكس بيكو التي رسمت الحدود بشكلها الحالي الذي أفقد مصر الكثير من ممتلكاتها ومجالها الحيوي.
كان خطأ الخديوي إسماعيل الاعتماد على الأجانب الذين أنهوا حكمه بعد ذلك، لقد أسند قيادة الحملة العسكرية المصرية للتوسع في منابع النيل للانجليزي السير صمويل بيكر الذي قاد الجنود المصريين للوصول إلى أوغندا، ثم نقل بيكر ما لديه من معلومات لبريطانيا التي استفادت منها بعد ذلك في توسعها الاستعماري في شرق ووسط القارة الأفريقية وطرد مصر من هذه المنطقة.
الاستعمار الانجليزي وتقوية أثيوبيا
لعبت بريطانيا منذ البداية على تقوية أثيوبيا كدولة مسيحية في القرن الإفريقي لتخدم السياسة الغربية، فضمت إلى الحكم المسيحي الذي كان قاصرا على ولايتي التيجراي وأمهرا أراضي المسلمين العفر والاورومو والصوماليين، وأراضي قبائل بني شنقول العربية التي يبنى عليها سد النهضة، لتقوية أثيوبيا كنقطة ارتكاز للغرب في القارة الأفريقية وتمكينها من التحكم في مياه النيل وتهديد مصر على النحو الذي نراه.
من المعروف أن أراضي الحبشة التاريخية تقع في الهضبة بالشمال المسيحي، لكن معظم أثيوبيا بحدودها السياسية الحالية أراض إسلامية، ضمها الاستعمار بالقوة، لمنع المسلمين من حكم أنفسهم، ولبناء حزام يمنع تمدد الإسلام إلى أفريقيا.
تعد أثيوبيا ثالث دولة في أفريقيا بها مسلمون بعد نيجيريا ومصر؛
إذ يقترب إجمالي السكان في الدولة الأثيوبية من 100 مليون نسمة. وبعيدا عن الإحصاءات الرسمية فإن ثلثي المواطنين في أثيوبيا مسلمون وعمل البريطانيون ثم الأمريكيون من بعدهم على تمكين الأقلية المسيحية ودعمها لفرض سلطتها على أراضي المسلمين بالقوة، وليس الاقتصار على حكم هضبة الشمال.
وقد تعرض المسلمون لعمليات تطهير وتهجير واسعة لإضعافهم، ومازالت عمليات الاضطهاد مستمرة، حيث يمنع الحكم الأثيوبي أي نشاط سياسي للمسلمين ويطارد المثقفين والشباب المتعلم بالقتل والسجن والنفي، ولذلك يعيش الكثير من مسلمي أثيوبيا كلاجئين في دول الجوار وفي الخارج.
وتشهد أثيوبيا حاليا مظاهرات متواصلة لمسلمي الأورومو احتجاجا على العنصرية التي تمارسها الأقلية الحاكمة التي تنتمي إلى عرق التيجراي الذي لا يزيد عن 7% من السكان.
وتأتي الاحتجاجات الأخيرة لاستمرار سياسة تفتيت وتمزيق أراضي المسلمين، حيث تهدف خطة الحكومة الإثيوبية بتوسيع العاصمة أديس أبابا التي تقع في إقليم أورومو إلى الاستيلاء على أراضي الفلاحين المسلمين وقطع الامتداد الجغرافي لأراضي الأورومو من الشرق والجنوب إلى الغرب.
التداعيات والنتائج
استغل الأثيوبيون ومن يقف ورائهم من دوائر سياسية وشركات ومؤسسات تمويل حالة الاضطراب في مصر لتنفيذ السد، ولكن تسبب اللقاء الشهير للرئيس محمد مرسي وقادة الأحزاب المصرية عن سد النهضة والذي تم بثه تلفزيونيا على الهواء، في إثارة الرعب لدى الأثيوبيين وخوف الممولين للمشروع، ويومها طالب بعض السياسيين المصريين الحاضرين في اللقاء بضرب السد، مما أحدث ارتباكا كاد أن يوقف المشروع، وهنا تحركت الدوائر الغربية وطلبت موافقة مصر وتوقيع عبد الفتاح السيسي لتأمين أموالهم وللاستمرار باطمئنان في التنفيذ، فحصلوا على ما طلبوه، وأكملوا المشروع.
ينتظر الشعب المصري أياما صعبة هي الأولى من نوعها على مدار تاريخهم، وإن لم يحدث تغيرا في الموقف المصري، كأن يرفض البرلمان المصري ويقرر سحب الموافقة التي تمت، أو يحدث تغيير جدي في موقف السلطة وقلب الطاولة على ما تم فإن مصر مقبلة على العطش والجفاف، وستخضع الدولة المصرية لابتزاز وعمليات إذلال غير مسبوقة وستجد نفسها فريسة للإسرائيليين الذين سيكون لهم الكلمة العليا في شريان الحياة الذي تعيش عليه مصر.
ليس أمام المصريين أي بدائل أخرى للنيل.وحتى البديل الساخر الذي طرحه عبد الفتاح السيسي عن التنقية الثلاثية لمياه الصرف الصحي غير منطقي؛ فتوفير 10 مليون متر مكعب من المياه يوميا للشرب والزراعة، مستحيل وغير قابل للتحقق رغم عدم تقبله ومنافاته للعقل والمنطق؛ لأن جفاف النيل يعني اختفاء مياه الصرف الصحي بالتبعية، أي لن يكون هناك صرف صحي أصلا كي يعاد تكريره وتنقيته!
ربما يأتي التلويح بإجبار الشعب المصري على شرب مياه الصرف الصحي في إطار إثارة فزع المصريين، لتقبل الهيمنة الإسرائيلية على نهر النيل والتهيئة لتقبل الشعب المصري لفكرة توصيل المياه للكيان الصهيوني بل وتقديمها على أنها مطلبا شعبيا لإنقاذ المصريين، وإن تم لهذا التخطيط أن ينجح ستكون مصر السلطة والشعب والأرض في قبضة الصهاينة، وقل على مصر السلام.