أين البراق وبغداد العفيفة طال أسرها؟
د. عمران الكبيسي
بغداد عاصمة الرشيد، ومنارة المجد التليد، جوهرة الشرق، موئل الشعراء ومصدر الإلهام، مجتمع العلم والفن والأدب والفلسفة ومدارس اللغة والنحو والفقه، موطن السندباد، وأحلام ألف ليلة وليلة،
بغداد قلب العراق الحر قلعة العروبة والإسلام، من يصدق أنها اليوم تعاني تقاسي تكابد تختنق وتحتضر، موه وجهها، وتقوس ظهرها واحدودب، وهزل قوامها، وتقطعت أجزاؤها، اختطفت منذ عشر سنين، واعتلى ظهرها الغجر، اغتصبت واعتقلت وسجنت ومازالت تقاسي العذاب ولسان حالها يقول للعرب ما قالت ليلى العفيفة لأبناء عمومتها: حكاية ليلى العفيفة تصح رمزا لحكاية بغداد، ليلى بنت لكيز بن مرّة بن أسد من تغلب وائل وقبائل ربيعة بن نزار العربية.
شاع ذكرها في التراث العربي واشتهر، وكانت أملح بنات العرب وأجملهن خصالا، تامة الحسن جمة الأدب.
خطبتها سراة العرب فرفضتهم جميعا وكانت تكره الخروج من قومها، وقصتها نموذجا لاعتزاز العرب وفخرهم ببناتهم، ورفضهن زواج العجم.
أحبت ليلى ابن عمها البراق بن روحان وأحبها، وكان فارس ربيعة، وإليه انتهى عزّها وشرفها قبل الزير سالم، ولكن والدها أراد تزويجها بملك يعزز وجاهته بين العرب، فلم تعص أباها وتعففت عن البراق رغم حبها له فلُقبت بالعفيفة، استاء البراق من عمه وترك قومه ونزل على بني حنيفة.
فثارت بغيابه حرب ضروس بين تغلب وقُضاعة وطي، وقتل فيها الكثير وتعاظمت الشرور، واتسع الخرق، واضطرب حبل ربيعة ودارت عليها الدوائر، فاستنجدوا بالبراق فقبل زعامتهم وغار بهم على ديار قضاعة وطي وهزمهم هزيمة نكراء، وكان ابن كسرى ملك الفرس قد خطب ليلى لنفسه فرفضته فكمن لها في غفلة واختطفها ونقلها إلى فارس، وحاول الزواج منها فتعففت وامتنعت عليه، ولم يزدها ترغيبه وترهيبه إلا إصرارا حتى خيرته أن يقتلها أو يعيدها إلى أبيها وعشيرتها. وأطلقت أبياتها تستصرخ البرّاق وتستحث قومها لإنقاذها، قائلة:
ليـتَ للبـراق عينـا فتــرى
مـا ألاقـي مـن بـلاء وعنــا
يا كليبــا وعقيــلا إخـوتــي
يا جنيـدا أسعــدونـي بالبكــا
عُـذبـت أختُكــم يـا ويلكـــم
بعـذاب النُكـر صُبحـا ومَســا
غَلّلـونـي، قَيَـدونـي، ضَـربـوا
ملمس العفـة منـي بالعصـا
يكـذب الأعجـمُ مـا يَقــربُنـي
ومعي بعض حشاشات الحيـا
فـاصطبارا أو عـزاءا حسـنا
كـل نصـر بعـد ضُـرٍ يـرتجـى
قـل لعـدنان هــديتـم شمــروا
لبني مبغوض تشميـر الـوفـا
يا بني تغلب سيروا وانصروا
وذروا الغفلة عنكم و الكرى
سمع راع عربي ليلى تنشد أبياتها مكتئبة تندب قومها فأسرع إلى البراق يبلغه صرختها، وما إن أكمل إنشاد أبياتها أمامه حتى وضع البراق رجله في الركاب واعتلى صهوة جواده وندب فرسان ربيعة فاجتمعت إليه قبائل العرب تحالفه فاستنقذ بهم ابنة عمه ليلى واستحق الفوز بها، وتزعم تغلب زمناً أصبحت فيه ربيعة بحسن تدبيره أوسع العرب خيراً وحظا. حتى توفي نحو عام 479م. ولحقته ليلى بعد أربعة أعوام. وخلدت قصتها في أعماق التراث، فمضمون أبياتها يوافي صرختها الأبية ضد الاستباحة، واجتذبت حكايتها خيال الفنانين فغنت أسمهان ليت للبراق عينا عام 1938 وصورت ضمن فيلم أميرة الشرق الذي يحكي قصة ليلى.بيد أن اقتران الملك فاروق بفريدة أخت شاه إيران أوقف العمل بالفيلم، وأعجبت الشاعرة العراقية المبدعة نازك الملائكة بليلى فأسمت ابنها الوحيد البرَّاق رغم صعوبة نطقه وندرته.
اليوم بغداد العفيفة المليحة قبلة العرب ومحط أنظارهم جار عليها الزمان بغزو العلوج، وتعرقبها الفرس المجوس من خلفهم، أسروها كما أسرت ليلى بغفلة من قومها، وحاشا أن ترضى بغداد بالصفويين أصهارا، وأن تذل وتستكين، وندعو من يزور العراق ولاسيما النجف وكربلاء أن ينزل إلى الأسواق ويسأل شيعة العرب هناك ليعرف ويتيقن منهم ما حل بهم وبإخوانهم السنة من ضيم الصفويين المجوس.
اليوم هب عرب الأنبار في الرمادي والفلوجة لنجدة عاصمتهم وعراقهم، وتداعى لصرختهم عرب الموصل وسامراء بصلاح الدين وديالى وعرب الجنوب في البصرة والناصرية والكوت والنجف وكربلاء على كلمة رجل واحد للخلاص، وإنها لثورة الربيع التي نأمل أن تعيد لبغداد حصانتها وعفافها ووجهها العربي وتبرأ من خطايا قوم كسرى ورجس أحفاده وغلمانه، ولنا بثورة الربيع في دمشق شقيقة بغداد ما نستهدي ونسترشد به ولن يصح إلا الصحيح.
تاريخ النشر:السبت 21 صفر 1434 هـ
05 يناير 2013 م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق