شريف عبدالعزيز
هل إذا قلنا إن إسقاط الطائرة الروسية التي اخترقت المجال الجوي التركي في 24 نوفمبر الماضي كان كلمة السر في تحويل مسار الأزمة السورية وانتقال الصراع الدولي – الإقليمي إلى بلدة صغيرة – إعزاز – وتغير الخطط الدولية إزاء ملف الأزمة ، بعدما كان يتجول في مجمل الجغرافيا ويقترب من العاصمة السياسية لسورية، طلبا لتنفيذ الخطة الروسية الأولى بتثبيت حكم الأسد،
هل إذا قلنا ذلك نكون مجازفين ؟! لا أعتقد ، فالروس على ما يبدو ، ومنذ تلك الحادثة التي حطمت كبريائهم ولطخت سمعتهم،وبالتعاون التام والكامل مع الأمريكا، قد قرروا تأديب تركيا وإرغامها على تجرع السمّ ، ونقل الفوضى الشاملة والاحتراب الأهلي إلى قلب تركيا، والرضوخ لفكرة مجاورة أعدى أعدائها التاريخيين، والسكوت على أكبر تهديد لأمنها القومي؛ الأكراد.
فبعد أن اتجهت بوصلة الصراع قبل أسابيع إلى حلب العاصمة الاقتصادية للبلاد، فإن اتجاهات رياح الحرب المستمرة منذ خمس سنوات، ستتحول ناحية بلدة اعزاز التي تشكل نقطة التقاء طرفي المناطق الكردية وخط إمداد للمعارضة ، ويبدو من استنفار اللاعبين الدوليين والإقليميين ، أن مصير اعزاز يشكل محطة رئيسية في مصير حلب ، ومن ثم رسم مستقبل الشرق الأوسط. ومن يفوز بهذه البلدة الصغيرة، سيعزز موقعه في رسم النظام الإقليمي الجديد.
الخريطة التي رسمها البريطانيون والفرنسيون في اتفاق سايكس - بيكو، ويأتي اليوم الأميركيون والروس بعد مئة سنة من أجل رسم سايكس – بيكو الخاصة بهم ، بمحو الدولة القومية لصالح كانتون الطائفية.
وتأتي أهمية "إعزاز" من أمرين: أولاً: إنها خط الإمداد الرئيس من تركيا إلى فصائل المعارضة ومناطقها في ريف حلب والمدينة، بما في ذلك معبر باب السلامة الذي تسيطر عليه "حركة أحرار الشام"، والسيطرة عليها تعني المرحلة الأخيرة في حصار حلب.
ثانياً: أن اعزاز نقطة التقاطع بين ضفتي نهر الفرات الشرقية والغربية، بل الأهم أن نقطة الجمع بين إقليمي الإدارة الذاتية الكردية في الجزيرة وعين العرب (كوباني) شرقاً وإقليم عفرين في ريف حلب غرباً . وبالتالي فالسيطرة الكردية على " اعزاز" تضع حجر الأساس الرئيس في قيام كردستان سورية التي تمتد على طول الحدود التركية. وعدم السيطرة عليها يترك المشروع الكردي محصورا في إدارات ذاتية ضمن "سوريا الجديدة أو بالأحرى سورية الروسية " القائمة على اللامركزية والإدارات المحلية.
الحكومة التركية وضعت سيطرة المقاتلين الأكراد على اعزاز في سياق "الأمن القومي" واعتبرته "خطاً أحمر"، لن تسمح بعبوره. والسبب، أن حكومة أنقرة تعتقد بأن سقوط هذه البلدة يعني قيام "كردستان سورية" إلى جانب "كردستان العراق"، ما يفتح الباب أمام قيام "كردستان تركيا" جنوب البلاد وإلهام طموحات "حزب العمال الكردستاني" الذي تعتبره تنظيماً إرهابياً.
كما أن هذه السيطرة ستنسف للأبد فكرة المنطقة العازلة ، وكانت الحكومة التركية قد سعت طويلا لدى واشنطن لإقامة منطقة آمنة بين جرابلس واعزاز تمتد على الحدود السورية - التركية بطول حوالي 100 كيلومتر وفي عمق 45 كيلومتراً، لتوفير ملاذات آمنة للاجئين وطرد "داعش" من هذه المنطقة، لكن أمريكا رفضت بشدة،لأنها كانت تضمر ترتيبا مغايرا للمنطقة أسفرت عنه الأسابيع الماضية.
ولما تأكدت تركيا من صدق خيانة حليفها التاريخي – أمريكا – وتحالفهم مع الروس لإغراق تركيا في الفوضى والقتال الداخلي والاقليمي ، بدأت القوات التركية، يوم السبت 14 فبراير الحالي، في قصف مواقع الميليشيات الكردية السورية في منطقة إعزاز وجوارها ومطار منغ ، وقد برر الأتراك عمليات القصف بأنها تطبيق لقواعد الاشتباك؛ بمعنى أنها رد على تهديد الميليشيات الكردية للأمن التركي ، وبعد حادثة إسقاط الطائرة الروسية في نوفمبر الماضي ،قامت روسيا بنشر منظومة الصواريخ "اس – 400" فازدادت صعوبة إقامة منطقة حظر طيران أو منطقة آمنة.لذلك لجأ الجيش التركي إلى المدفعية التي يبلغ مدى قذائفها حوالي 60 كيلومتراً وشن قصفاً مكثفاً على مواقع الأكراد. وطالبت انقرة "وحدات الحماية" بالانسحاب من مطار منغ، الأمر الذي رفضه الأكراد بحسم بعد أن قويت عزائمهم بالدعم الروسي والأمريكي.
وهنا السؤال الأهم الذي يطرح نفسه على الأحداث ؛ هل الخيار العسكري التركي فعالا في التعامل مع هذه الأزمة ، ومن سيتنصر في هذا الصراع الأتراك أم الأكراد ؟ أم أن الجميع سيخسرون ، وينتصر الأمريكان والروس وإسرائيل فحسب ؟!
الحقيقة المجردة من ضغوط الحدث السياسي، وتأجيج خطابات الكراهية المتبادل ، وتحريض القوى الدولة ، وميراث العداوة الثقيل ، يدفعنا للقول بأن هذه الحرب خاسرة للجميع ، وأن خسارة الأتراك منها ستكون أكبر وأفدح من خسارة الأكراد ، وذلك لاعتبارات كثيرة منها :
ـــ الهشاشة الجيوسياسية التركية ؛ فتركيا منذ نشأتها تتسم بالهشاشة الجيوسياسية، ليس فقط لأن جنوب شرقها يعج بالأكراد المختلفين ثقافيًا عن الأتراك، ولكن لأن قواعد الجغرافيا نفسها قلما وضعت آسيا الصغرى المتاخمة لأوروبا واليونان والقسطنطينية في إطار سياسي واحد مع منطقة كردستان، ناهيك عن أن تلك الحالات القليلة غالبًا ما كانت فضفاضة بما يكفي لاستيعاب الاختلافات بين المنطقتين، كما كانت الحالة العثمانية، وهي سمة غابت تمامًا عن الجمهورية التركية الحديثة التي سلكت نهج الإنكار التام لوجود مسألة كردية، وأدت بالتالي لظهور حركات متطرفة مثل حزب العمال الكردستاني، في مقابل تراجع الشرعية الاجتماعية للدولة التركية والتي استمرت نتيجة قوتها والاعتراف الدولي بها ليس إلا، دون عقد اجتماعي حقيقي مع الأكراد على الأرض .
وقد تغير الحال بعد دخول حزب العدالة والتنمية للسلطة، والذي اهتم بتنمية المناطق الكردية وتحقيق التقارب بينها وبين الأناضول، وتجاوب مع مطالب الأكراد الثقافية بعيدًا عن أيديولوجية الجمهورية العلمانية المتطرفة، ليفتح الباب أمام الثقافة واللغة الكرديتين في المجال العام، ويجذب شرائح واسعة من الأكراد تجاه سياسات حزبه، لا سيما الشباب، وبعيدًا عن الحركات الكردية المتطرفة، والتي استمرت في الحصول على دعم الأجيال الأكبر والأكثر تمسكًا بالرؤى القومية، لتهدأ نيران الحرب بين الجيش التركي وحزب العمال، وتبدأ مسيرة “عملية السلام” التي دشنتها الحكومة مع حكومة كردستان العراق الناشئة آنذاك، وتترسخ شرعية الدولة التركية في الجنوب الشرقي بشكل غير مسبوق منذ العهد العثماني، وكانت تلك أول مرة بالطبع تصارح تركيا نفسها بخصوص الملف الكردي.
هذه القاعدة الجيوسياسية للجنوب الشرقي التي اكتسبت صلابة في فترة العدالة التنمية مرشحة للعودة للهشاشة وربما الانهيار مرة أخرى ، فضغط أنقرة على الأكراد يدفعهم بعيدًا عن شرعية الدولة التركية، ونحو التحالف مع قوى إقليمية أخرى، مثل سوريا في السابق ، أو غيرها من قوى دولية تقدم الدعم مثل الولايات المتحدة وفق الظروف الإقليمية الأوسع، في حين يدفعهم استيعابها لهم وتقديمها للتنمية وتعزيز حقوقهم الثقافية للابتعاد عن الحلول الراديكالية والانسجام أكثر مع الإدارة التركية، لا سيما وأن أكراد تركيا أولًا يختلفون عن نظرائهم في العراق ثقافيًا ولغويًا في جوانب عدة، وثانيًا يدركون أنه ليس في صالحهم الانسلاخ بالكامل عن تركيا نظرًا للكثير من المزايا التي يتمتعون بها في ظل الدولة التركية الأكثر تقدمًا ورفاهة من سواها في المنطقة. فالاستيعاب إذا أفضل بكثير من الصدام والمفاصلة.
ــ تغير الحسابات الاستراتيجية التركية ؛فقد ارتكزت الحسابات التركية إلى أوضاع ما قبل الربيع العربي بشكل كامل،وهي أوضاع تغيّرت بعد وصول الربيع لسوريا وتفكك النظام السوري وانحصاره في الجنوب،مما فتح الباب أمام الواقع الذي تجاهلته أنقرة، وهو قدرة أكراد شمال سوريا التاريخية على تشكيل حضور خاص بهم، وهو ما تجلى في ما يُعرَف اليوم بمنطقة روجافا التي انطلق منها حزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني وثيق الصلة بحزب العمال،ليُربك الحسابات التركية تمامًا.
ــ الفشل المتوقع لدويلة روجافا الكردية ؛ ففي حين يذهب كثيرون إلى أن صعود روجافا يهدد بشكل صريح المصالح التركية، بيد أن هذا الافتراض مبالغ فيه في الحقيقة لأسباب كثيرة، أولها أن روجافا ليست عدوًا يمكن دحره بقدر ما هي واقع ذو جذور جغرافية وإثنية واضحة ، ثانيهما محدوديته نظرًا لارتكازه ديمغرافيًا للأكراد، مما يعني صعوبة انتشاره بشكل موسّع في مناطق عربية ، ثالثهما التباين الكبير بين أكرد تركيا وأكراد العراق في الثقافة والمساحة والموارد وحتى في اللسان والكتابة ، كما أن ظهور كيان كردي ثانٍ في الحقيقة قد يخدم أنقرة مستقبلًا نظرًا لكونه يقتل تمامًا فكرة الدولة الكردية، على العكس مما قد يعتقد البعض، لا سيما وأن هذين الكيانين بعيدان عن بعضهما نسبيًا نظرًا للعداوات القديمة بين أوجلان والبرزاني .
ــ الضرر العسكري الكبير المتوقع حال اشتعال جبهة الحرب ، ودخول تركيا إلى شمال سوريا لطرد مقاتلي الأكراد الانفصاليين ، فمن المؤكد أن الدخول سيعطي فرصة سانحة للروس للدخول في حرب مباشرة مع الأتراك ، وثمة اختلال كبير في موازين القوى بين تركيا وروسيا لصالح الأخيرة. فقد قال مبعوث المجموعة السورية لموسكو إن روسيا وعدت بحماية المقاتلين الأكراد في سوريا إذا ما شنت تركيا هجوما بريا، وهي الخطوة التي من شأنها أن تفجر حربا كبيرة ، وفي تقرير نشره موقع "بلومبرج"، الإخباري الأمريكي ، رأى الكاتب أن التدخل التركي على الأرض يحمل مخاطر النزاع مع روسيا التي تدعم الأكراد عسكريا،وسيثير غضب الولايات المتحدة التي ترى في هذه الميلشيات حليفا رئيسا في الحرب ضد تنظيم الدولة.وقالت روسيا إنها تسند الأكراد السوريين عسكريا، وكشف نيكولاي كوفاليوف، الرئيس السابق لجهاز الأمن الاتحادي، أن الطائرات الروسية ستقصف القوات التركية إذا دخلوا سوريا. و بالإضافة إلى توفير الدعم الجوي، تقدم روسيا الذخيرة إلى الأكراد السوريين، وفقا لنائب رئيس الوزراء السوري السابق قدري جميل، وهو كردي "معارض" مقيم حاليَا موسكو وعلى اتصال وثيق مع الحكومة الروسية وحزب الاتحاد الديمقراطي.
أمريكا والناتو سيتخليان حتما عن تركيا حال اشتعال حرب بينها وبين روسيا ، وسياسة الأرض المحروقة التي ينتهجها السفاح بوتين تكاد لا تعني الإدارة الأميركية التي تلقّى رئيسها رسالة روسية تطالبه بتأجيل موعد إعلان وقف النار إلى الأول من مارس، ما يعطي الروس أسابيع إضافية لمتابعة إجرامهم بحقّ الشعب السوري ، ومحاصرة تركيا بألد خصومها ، ولم يعد العالم بحاجة إلى دليل إضافي على انحياز أمريكا بالكامل إلى محور روسيا وإيران ، وإن ما يطلبه أوباما من تركيا والسعودية وباقي جيران الأسد أمر مستحيل. لأنه سيفجر المنطقة بأسرها بحرب إقليمية بنكهة طائفية طافحة ، حرب يتضرر منها الجميع ، ويخسر فيها الجميع ، ولا يربح منها سوى الروس والأمريكان . لذا فواجب الوقت على تركيا الدفع باتجاه الحرب غير المباشرة ، واستخدام كل الأدوات اللازمة من أجل تسليح المعارضة السورية بشتى أطيافها ، فإيران فرضت كلمتها في سوريا ومن قبلها العراق عبر مليشياتها العسكرية ، والتدخل الخشن غير المباشر ، وتركيا تستطيع أن تفعل ذلك عبر فصائل المعارضة السورية ، فزمان التدخل المباشر قد مضى ، وأصبح عسيرا إن لم يكن مستحيلا ، وما كان يجب فعله في 2013 ، لا يمكن فعله في 2016 ، ولكن تركيا مازالت ووفق كل الأعراف والمواثيق الدولية محتفظة بحق الدفاع عن أمنها القومي وعمقها الاستراتيجي.
فليحذر الأتراك وحلفاؤهم من هذه الحرب التي يريدها الأمريكان والروس بقوة ، لأنها الحرب التي يخسر فيها الجميع إلا الأمريكان والروس.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق