عضّ رجلٌ كلبا هو الخبر، وليس عض كلبٌ شعبا طيب الأعراق!
قبل الحديث عن أشهر مهنة في السنين الأخيرة، أو عن أحدث مهنة في التاريخ، عن مهنة المحلل السياسي الذي بات قائدا وزعيما وأيقونة فضائية، ثم مهرجا؛ سأتذكر شخصيتين، لهما علاقة بالحديث، الأولى من ذكرياتي في المهنة: طوبال كان حارسا في شركة من الشركات السورية الحكومية، صار اسمه "طوبال سي دي" نسبة إلى قرص السي دي المدمج، وهو رجل متوسط الذكاء مثل "نور عينينا" أو هو بقوة ذكاء "زنقة زنقة"، وهو ينتمي إلى إحدى الأقليات الكريمة، يتحدث أحيانا في السياسة العامة التي لم نكن نجرؤ على التحدث بها، إما لانتمائه إلى الأقلية الحاكمة، أو لخفة عقله. ضُبط وهو يتفرج على أفلام إباحية في أثناء المناوبة، وكان أن رفع إلى رتبة رئيس حرس بدلا من أن يعاقب بتهمتين، هما إهمال الوظيفة، ومتابعة أفلام إباحية في الدوام الرسمي!
تحوَّل الرجل إلى حديث الشركة، فالمدير ورؤساء الدوائر يتابعون الأفلام الإباحية اللذيذة لكن في... البيت، وقد صادروا الأفلام ليتابعوها هذه المرة في العمل بحجة فحص المضبوطات، إذا عوقب سيتهم المدير بأنه طائفي، فطوبال من الأقلية الحاكمة المقدسة.
العقوبة التي كوفئ بها كانت تدل على حال البلد وعقيدته الإباحية في كل المجالات..
الثاني: صحفي سوري تلفزيوني مغرور كان يكرر تعبيرين في كل لقاء تلفزيوني هما: "جيو بوليتك" واسم "كلاوزفيتز"، هذا ذكي ما شاء الله، فهيم، صاحب بيان، برز نجمه في أثناء انتقال الحكم الجمهوري الاشتراكي السوري البعثي من الأب إلى الابن بنعومة وسلاسة هيدروليكية، وعرف بتعبير "الماكينة السورية" في وصف انتقال عربة الحكم التي كانت بقوة عشرة أحصنة، ثم أصبحت بقوة بغل واحد، ودب واحد، وصار نجما بعدة جمل منمقة- عرفنا لاحقا أنه خريج هندسة ميكانيكية- فما الذي تغير بعد انقلاب مصر و بعد عضّ ديمتسورا وبوتين على الملف السوري بالأنياب والنواجذ؟
مضت تلك التي قد نسميها أيام الزمن الجميل، سخرية وندبا، عندما كان نطق كلمة معارضة على فضائية عربية مثل الجزيرة يسبب استنفارا لدى أجهزة الأنظمة الحاكمة التكفيرية، ويدفعها إلى اعتقال مواطنها في المطار حال عودته من استوديو الجزيرة، ومنهم مثلا عبد الرحمن كوكي الذي اعتقل ليس لحديثه، وإنما لسكوته لضيفه المصري الذي ذكر السيدة السورية الأولى في معرض الحديث عن الحجاب.
تحولت متابعة التلفزيون في أيام المظاهرات الأولى في مصر وتونس وليبيا إلى نوع من الذِكر والواجب الوطني، وكانت الجزيرة سيدة الفضائيات العربية ولعلها لا تزال، وإن بات الإعلام كله مثل ذنب الحصان الذي بالكاد يذب الذباب والسبب هو الماكينة التي تحكم مجلس "المخابرات" الدولي!
المحلل السياسي صار أشهر بضاعة إعلامية لدى الأنظمة الانقلابية الاحتفالية، مهمته الدجل الصافي، وظيفته جعل الحبة قبة وأحيانا قبابا وخياما وكفتة وتمرا هنديا، والحفاظ ما أمكن على تماسك القبيلة أو الطائفة أو العصبة التي تتابع فضائيات بعينها لا تحيد عنها، فالفضائيات الأخرى رجس من أعمال الشيطان الأكبر، فهو مكلف بمهمة الكاهن والساحر في القبيلة البدائية: الزمزمة وطمأنة العصبة الفاسقة إلى أن كل شيء بخير.
طار نجم محللين أمثال شريف شحادة وناصر قنديل وهاني رسلان وباتوا أشهر من روبي ونانسي عجرم وهيفا وهبي وياسين بقوش، لكن مع استقرار الانقلاب في مصر وبلوغ الدم للركب في سوريا، أو قبله بقليل مات المحلل السياسي تقريبا. لم يعد التحليل يعني كثيرا أو قليلا إلا فيما ندر حتى هيكل كان حديثه في أيام الخميس مع لميس الحديدي في عهد مرسي يستقطب جمهورا، ومع استقرار الانقلاب فتَرَ البرنامج وانتهت مدة صلاحيته، بل نافس بثينة شعبان عند قوله إن الثوار هم الذين ضربوا أنفسهم بالكيماوي، وأن زعيم حزب الله قومي عربي!
السبب في احتضار المحلل السياسي هو أن الأحداث متلاحقة وطامة وتبلع كل التوقعات، فعلى سبيل المثال صار عريان الاتحادية بطلا قوميا أيام مرسي، لكن في أيام السيسي تعب الجمهور من عدِّ الضحايا. أما في سوريا فصاروا بمئات الألوف لأن السفيه صار في الاتحادية وفي القصر الجمهوري.
الخبر نفسه لا يعني شيئا، فبدلا من التفكير في القصاص للضحايا لم يعد أهل الضحية يجدون الجثة المتفحمة الذائبة ليدفنوها. تصور أن يقوم أحد أفراد العائلة بموعظة أو تحليل سياسي والبيت يحترق.
السبب الثاني هو أن الزعماء في الأيام الأخيرة أصبحوا ينافسون المحلل السياسي في مهنته، فواشنطن تقول: الأسد واهم إذا اعتقد أن الحسم يمكن أن يكون عسكريا! ثم يتابع الناطق باسم البيت الأبيض قوله: خطة ميونيخ لن تنجح إلا إذا توقف القصف الروسي.
بل إن أوباما صار ينافس شحادة في الفانتازيا التحليلية فبعد الأيام المعدودة للأسد تغيّر الحال وأصبح داعش هو "الحبيب المجهول" والأسد شريك فخري في التحالف!
أما رئيس وزراء تركيا فتحول هو الآخر محللا سياسيا بسبب العجز أمام دولة الفودكا العظمى يقودها بودي غارد قصفت سوريا بما يعادل عشرات القنابل النووية، ونافسه وزير خارجية تركيا الذي قال: روسيا ستخرج من سوريا كما خرجت مهزومة من أفغانستان. أو أنه يخبرنا خبرا نعرفه جميعا: روسيا تقصف المستشفيات والمدارس!
أو يقول: لا زلنا نقول إن العالم أكبر من الدول الخمس دائمة العضوية. أوباما صار ناشطا سياسيا: روسيا تدعم قوات الأسد وهذا دليل على ضعفه، أو قوله موعظة الأحد في يوم الأربعاء: ماذا ستكسب روسيا من خلال دعم حليف بلده مدمر...
يا ادلعادي!
صارت مدة صلاحية التحليل السياسي الرصين يوما واحدا فقط أو حال انتهاء البرنامج. ويذكر المحلل السيسي الموظف لدى الطغاة بالتيس المستعار أو بطوبال سيدي العريان 8 غيغا، وباتت متابعة فضائية "المزايين" للبعير أكثر متعة من مشاهدة برامج التوك شو.
الصحفي الجيوبوليتكي الذي ذكرناه ودارت عليه الأيام، وصار بطلا ينافس الشيف رمزي في تذكر طبخات الشام اللذيذة! أما طوبال فأمسى بطلا يقود ويخطب مثل النمر الوردي السوري في جماهير الدفاع الوطني، ويشتم جماعات جهاد النكاح على دكاكين الفضاء الكثيرة.
المحلل السياسي تفوح رائحة جثته وهو يحاول تقليد شهرزاد أو زرقاء اليمامة حتى لا يموت جمهوره من اليأس، وينكر كل شيء حتى شروق الشمس من الشرق، وهو يتجاوز البصارة أو المشعوذ الذي يكتب برجك اليوم، أو قراءة الفنجان أو البرميل، بشكل كانت الناس تعتقد أن المحلل الموالي هو قرين الرئيس. غايته إنكار الحقيقية حتى يرى العذاب الأليم!
الكلب الذي عضّ شعبا هو أسد وغضنفر وسيبقى إلى الأبد..
ما تقولش أمين شرطة اسم الله وإلا تحليل سياسي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق