وائل قنديل
تدور اللعبة، الآن، بالطريقة نفسها التي استخدمها القائمون على "مشروع عبد الفتاح السيسي" قبل الانقلاب، حيث يتم سلخ شريحة من المجتمع، وتوجيه كل طاقات ونوازع الكراهية لها، باعتبارها مصدر كل الشرور، ومنبت كل تعثر في مسيرة الدولة.
التصويب، هذه المرة، على شريحة أمناء الشرطة، إذ تشتغل جميع الماكينات في توقيت واحد على إنتاج فرضية وتثبيتها حقيقة لا تقبل الشك والجدل، مفادها أن مشكلة مصر تكمن في "أمناء شرطتها"، وكأن كل شيء، بعيدا عن هذه الجزئية، جيد ومحترم ونموذجي.
إنها لعبة تحويل مجرى الغضب عن جوهر المشكلة وأصل الداء، وهو أن كابينة القيادة في مصر الآن يقبع فيها شخص أقام علاقة استراتيجية، لا تنفصم، مع الفشل، وسخّر كل الإمكانات الموجودة تحت يديه للقضاء على أي فرصة في مستقبل محترم، أو هكذا يريد الذين وضعوه في هذا المكان، ووفروا له كل أوجه الدعم والحماية.
المأساة بدأت بابتذال عاطفة "حب الوطن"، لتصبح صيحة "تحيا مصر" ملاذاً آمناً للقتلة والفاسدين والفاشلين، بحيث يصبح القتل عملاً مبرراً ومستساغاً، طالما كان في حب مصر، على طريقة عبد الفتاح السيسي، حتى استقر في عقيدة رجل الأمن أنه يستطيع أن يبطش ويقتل ويستولي على ممتلكات الغير، ما دام كل ذلك يدور في إطار "حب مصر".
كانت مذابح "رابعة العدوية وأخواتها" تطبيقاً عملياً لفلسفة جديدة في الحكم، تمنح رجل الأمن تفويضاً مفتوحاً بالقتل والظلم وممارسة الإجرام، ودهس القانون، حباً في الوطن. وعلى ذلك، لم يكن التفويض بالقتل الذي طلبه عبد الفتاح السيسي يخصه فقط، بل صار لكل فرد أمن حصة منه، يستخدمه كما ووقتما يشاء، ما دام ذلك في حب مصر، على مذهب "القائد الضرورة" الذي لا يُسأل عن ما يفعل. وكما هو معلوم، فالضرورات ليست فقط تبيح المحظورات، وإنما صارت تبرّر الجرائم، وتسوّغ الفظائع والانتهاكات.
لا فرق، هنا، بين ما فعله أمين الشرطة في منطقة الدرب الأحمر وما يفعله نظام عبد الفتاح السيسي، من خلال ما تسمى "لجنة مصادرة أموال الإخوان". اعتبر الأول أن من حقه أن يحصل على ما يشاء من أموال المواطن، سائق السيارة القتيل، وحين رفض وأبدى احتجاجاً، كان القرار السريع بقتله "في حب مصر"، وهو ما يتّسق تماماً مع ما يمارسه السيسي ونظامه، فالمواطن الإخواني مستباح في ماله وفي دمه وفي عرضه، من أجل الوطن.
تحولت مصر، بهذه العقيدة، من دولةٍ إلى "وسية" أو "إقطاعية"، يحكمها منطق العلاقة بين الأسياد والعبيد، ولأن "الأسياد" يحمون الوطن من الإرهاب، فعلى العبيد أن يرضخوا ويذعنوا لكل متطلبات "الحرب على الإرهاب". وبالتالي، لا مجال هنا لاحترام القانون، ولا قواعد محترمة تحدد العلاقة بين الحاكم والمحكوم، أو "الحاتم والمحتوم".
وإذا كان "الحاتم الأول" يفعل ذلك، بل ويطالب بأن يحذو الجميع حذوه، فما الذي يمنع "الحواتم الصغار" من أن يكونوا مثله؟
ومن هنا، يصبح مضحكاً أن يعلن عبد الفتاح السيسي أنه يريد تشريعاتٍ رادعةً لجرائم استخدام السلطة في انتهاك حياة المواطن، فالثابت أنه أول من استخدم السلطة في القتل على نطاق واسع، يتعدّى مفهوم المجازر الجماعية، لتصل البلاد إلى هذه الحالة من استرخاص الدماء، واعتبار القتل عملاً إبداعياً، يستحق الإشادة.
بمعايير الدولة، لم تعد مصر "دولة"، ولا حتى "معسكراً".
وكما قلت، سابقاً، لو حاولتَ أن تقيّم مصر بمعايير "المعسكر"، ستكتشف أنها في حالةٍ من الرخاوة والبلادة الأمنية التي تجعلها عرضةً لضربات موجعةٍ هنا وهناك، على الرغم من كل هذا البطش الذي تمارسه سلطاتها، قضائياً وشرطياً وعسكرياً، حتى إنها تضرب في المكان نفسه مرتين وثلاثاً، ولا تتعلم أبداً.
إن نظاماً احتفى بالبلطجة، وأجزل لها العطاء، حتى إنه كافأ "المواطنين الشرفاء" الذين استخدمهم في القتل خارج القانون، وقرّر دمجهم في جهاز الشرطة، هو الفاعل الأول في كل جرائم "حواتم الشرطة" التي يدللونها بوصفها "حالات فردية".
وعلى ذلك، ليس منطقياً بالمرة اعتبار "أمناء الشرطة" سبباً وحيداً لما تشهده مصر من تغييب كامل للقانون، وتدمير شامل لقيم العدل واحترام آدمية البشر، بل الصحيح أن "الأمناء" نتيجة، وليسوا سبباً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق