بين عقل القرية وعقل الإمبراطورية
مدير منتدى العلاقات العربية والدولية - الدوحة
حدّث أحدهم عن والده وهو من سكان قرى الحجاز، قال إن والده في نهاية كل أسبوع ينزل مع عدد من أصدقائه قادة القرية إلى تهامة حيث الدفء والهدوء، ويشوون تيساً، ثم يتحدثون في السياسة الدولية، وينتهون إلى أن سكان قريتهم هم خير سكان الحجاز.
ولكن الخاتمة الأهم أنهم ليسوا خير رجال الجزيرة العربية فحسب، بل هم خيرة العالم فهماً وديناً ودهاءً. وينتهي اللقاء إلى لقاء آخر غالبا ما تكون نتيجته هي نفسها!
ما دمنا في بلداننا لم نمر بمرحلة دولة حديثة، ولا دولة ديمقراطية تتبادل الاحترام بين أفرادها، إذ المحكوم والحاكم يصنع كل منهم الآخر، ويتبادلون الأدوار، وأسوأ من هذا أننا لا نناقش الرأي ولا نتبادل الرؤية والمصير ولا نتحدث بحرية في الأمور، ولو كما كان سكان القرى يفعلون.
ما دمنا كذلك، فسيظل كل منا يكتم رأيه صوابا أو خطأ، وقد يأخذ حريته أيضا في الحديث لبعض المقربين جدا أو الموثوقين جدا ليعبر عما في باله، وقد يستطيع شرح خصوصياته الشخصية بلا خطر، ولكن الخطر الأعظم على نفسه ومستقبله وأسرته وربما عشيرته أن يتحدث في الشأن العام، الذي هو شأنه أولا وشأن مجتمعه.
ولأن حرية الرأي في الدكتاتوريات أخطر من أي سلاح أو مخدر، وكل القرارات المهمة ضده، والعقوبات الأكبر تنال من يفكر أو يعارض برأي، وبما أن الرأي جريمة؛ فقد أصبح رأي الحاكم والمحكوم ضعيفا ومترددا وخجلا ومكسورا حتى قبل أن يعمل.
أما إذا عرض قوله أو رأيه في الخارج، فإنه يبعث على الضحك والسخرية، لأنه لم يسمح له بالنمو، ولا بالمواجهة الحرة، ولهذا تجدنا ننكب على الكتب المترجمة والمقالات المترجمة والإعلام الأجنبي، ونهتم بقول السياسي الأجنبي، لأنه رأي مصدره إنسان حرّ وحكومة حرّة، مع هذا فإن ما يجعل "الحق يهمس بيننا ويقام للبهتان منبر" أن الباطل يصرخ في كل زاوية من حياتنا ومن سياسات "حكومات"، لأننا لم نحاول حتى الهمس، ولا اقتحام عقبة قول الحق، فجريمة الصمت حاقت بنا نتائجها وشرّ الصمت يحيط بواقعنا ومستقبلنا.
لا أدعو إلى أن يدخل بقية نخبة مجتمع ومصلحيه ورجال الرأي فيه للسجون كما هي الدورة المعتادة عقوبة على كلمة الحق.
ولكن على كل منا أن يمارس ويقول الحق ولو سراً، ولوفي مجتمعه الصغير، وأن ينفي عن أسرته وزملائه وأصدقائه خبث وجراثيم التأييد الأعمى، فهو سرطان يفتك بالعقل والخلق والسياسة وكل شيء، ويورث تسلطا أعمى، أدى في بعض المجتمعات إلى أن يتجسس الأطفال على والديهم ويكتبوا عنهم تقارير للسلطات.
أستحي من نفسي وأنا أكتب لكم هذا القول، وأقول "مارسوا قول الحق سرا في بيوتكم وبين أصدقائكم الموثوقين". لكن عقل القرية وداء الدكتاتورية العمياء الذي خسف بأمتنا في العصور الأخيرة وأخرجها من التاريخ، لتكون شراذم خائفة وممتهنة ومهاجرة وهاربة وسجينة، أدى بنا لمطالب صغيرة جدا. فكيف نواجه سرطان الاستبداد الماحق إلا بكل وسيلة ومنها كلمة الحق سرا، فقد تُبقي على بعض عقولنا وعلى شيئ من إراداتنا.
إن سوء الحال الذي نعانيه والمستقبل الأكثر قلقا يجعل الصراحة لا بد أن تتسلل لمقالاتنا ولِما نكتبه ونتحدث به. ليس هناك من مستبد يقبل سماع حقيقة أن الدكتاتورية ورأي شيخ القرية المتفرد بالسلطة هو ما أوصلنا لما نحن فيه من حال سيء ومستقبل مخيف.
كل شيء يحيط بنا يتقدم ويتطور فيما عدا العقل القرويّ الذي يسيّر حياتنا ويتحكم في مستقبلنا. وحتى لا أظلم القرى، فإنها كانت أسعد حالا من مدن الحكومات العربية، وذلك لوجود صيغ مشورة "ديمقراطية" فيها وتصويت حقيقي للوصول للصالح العام. ولكن لما فوجئ العقل القروي فوجد نفسه يحكم شعبا، فإن الهيلمان ربما تغير، ولكن العقل لم يتغير، واستمرت عقليته التي لا تثق إلا بسكان قريته، والعباقرة أقاربه.
تلك هي الحقيقة، فالقرار يتم على عشاء بين الأقارب، وربما كُسرت العادة بأجنبي مقرّب. لكن المناقشة هي هي والنتائج نفسها.
ولم يحدث أن عمّرت بلدان الاستبداد مناقشة جادّة لمصيرها، لا سرية ولا مفتوحة، كما يناقش العدو الصهيوني -طبعا عدو الشعوب وليس عدو الحكام- قضاياه في مؤتمر هرتزيليا، ولا يُطمح مع عقلية القرية أن يحدث نقاش نافع عام بأي صيغة برلمانية كما يتم في برلمانات العالم الناجح.
إن أي حكومة لا تصل لمواقفها ولمستقبلها من خلال مؤسسات وأشخاص ونخب ترسم مواقفها، وتجد نفسها بسبب تعدد مراكز التأثير مجبرة على سلوك سياسي تكرهه قيادتها أحيانا، ليست حكومة حديثة، بل هي عقول مظلمة بظلمات الاستبداد.
ذلك أن عقل القرية صغير ومستبد يدمر ما حوله لينجو بنفسه أو بأقاربه، وهذا واضح جدا في تشكيل الحكومات القروية، فإن القرى الأخرى، التي خاصمت أجداد القروي قد حكم عليها بالحرمان من المشاركة في الغنيمة حتى وإن غزت معه وصنعت له نصرا، فقد حكم على عقولها بالطرد، وحكم على مستقبلها بالهامشية، ويجند سكان قريته لقراره، ويحذر أطفاله من مشاركة القرية الفلانية لأنهم قد يضمرون لنا عداء، وذلك أنه وهو يحكم يستخدم عقلا قرويا صغيرا وصله الدور في مسلسل تخلفي طويل يهيمن على المصائر في مشرقنا الجريح.
مأساة العقل القروي ودكتاتوريته التي منحته الظروف أنه يمنع نفسه من النمو ويحول دون تطوره بنفسه، ويمنع مجتمعه من صياغة أي حل للمآسي التي يصنعها، ولا يقدر على التراجع عن أخطائه، لأن الضعيف يتخذ قرارا ضعيفا، ويتورط فيه ولا يملك الشجاعة للخلاص منه، ولأن قراراته -كما روج لها مروّجوه- تاريخية وموفقة، وسيجد من إمام القرية المستضعف تأييدا، لأن إمام القرية ومعلم الغلمان عادة ما يجمع له سكان القرية معيشته من شيوخها وأغنيائها، ويعطي بكل سهولة مبررا دينيا لقول من يمنحه.
تلك بعض الحقائق الواقعية في حال مجتمعاتنا حين نفترض ونطلب مواجهة العقل القروي للعقل الإمبراطوري، فلم يعد السياسيون المتبصرون يناقشون هذه الحقائق الملمة بنا، فالقرى وعقولها المحافظة لا تستطيع فهم ولا مواجهة العقول الإمبراطورية، وليس لديها تأسيس ولا مؤسسات ولا تسمح بالأفكار المنقذة أن تتدخل ولو كانت ستكون فعالة إلا في اللحظة الأخيرة للانهيار، ومع ذلك فهي تضمر وتستعد للغدر بالناصحين لأنهم أحرجوها يوما ما، وشرحوا لها وللعالم سوء حالها.
العقل القرويّ صغير وينتقم انتقاما صغيرا لأشياء صغيرة ومواقف مثلها، يجيد الكيد ولا يجيد الإستراتيجية. والشعوب المقهورة بهذا العقل لا تملك ولا تنفذ ولا تخطط لإستراتيجية لأنها تعاني من أثر العقل القروي الذي جعل من تكوينه ثقافة عامة.
العقل القروي يعاند ويكابر جدا، ولكنه يستسلم للخارج، ويتعالى على الداخل، ويكيد لسكان القرى المجاورة، ولمن يخالفه من جيرانه، فهو ضيق الأفق، وصغير الهدف، ولو ناطح الكبار.
والكبار يعرفون تماما أنه ولو خالفهم فسيتبع، لأن ليس وراءه من شعب له رأي، بل رعاع وضاربو طبول، وفداوية لشخصه لا للبلاد ولا للقضايا الكبيرة. ويعلم الخارج أن خصومه هم جيرانه سكان قريته والقرى الأصغر، وأنه يفكر في نهب قرية مجاورة أو كسر جار، بينما أهل مشروع الإمبراطورية يفكرون في العالم، يفكرون في هيمنة على المحيطات وما وراءها من عوالم، فليس العقلان طرفي مواجهة، وشتان بين عقلين تباعد بينهما الغايات والتكوين وإن قاربت بينهما الجغرافيا.
حمى الله القرية -والكل قرى- من تعدد في الرأي يسبب خلافا قد يذهب بمتعة الرحلة ولذة الشواء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق