ابحثوا عن "شرعية" في سلخانة العقرب
وائل قنديل
قبل أن نمارس رفاهية التنظير في موضوع الشرعية والثورية، حريٌّ بالجميع أن يسألوا أنفسهم: لماذا هؤلاء البواسل هناك حتى الآن، وكان بمقدورهم ألا يكونوا هناك، لو أنهم استسلموا لديكتاتورية الأمر الواقع، ونزلوا عند إرادة سجانيهم وجلاديهم، وتنازلوا عن المبدأ والعقيدة؟
لماذا لم نسمع أن أحدهم رضخ لمنطق التفاهمات والصفقات، كي ينجو بنفسه من الجحيم، ويخرج، يمارس معارضةً مرتفعة السقف، لا أشك في أن النظام سيكون سعيداً بها، كونها تمنحه اعترافاً بشرعيته؟
ينقل ذوو المعذبين في العقرب، وغيره من معسكرات الأسر والتعذيب، عن المعذبين، أن شعارهم الوحيد هو "نموت على مات عليه الشهداء".
هذا هو مفهوم الشرعية لدى "أهل العقرب وطره" الذين لم نعرف أنهم وكّلوا أحداً للتفاوض باسمهم، أو المساومة على خروجهم، وقد كانوا يستطيعون.
يدور كلام كثير، هذه الأيام، حول فكرة الفصل بين الشرعية والثورة، بمنطق التنازل عن شرعية الرئيس محمد مرسي، كي تتقدم الثورة، أو بالحد الأدنى صياغة مفهوم آخر للشرعية، يتجاوز عودة الرئيس الأسير، من خلال اشتقاق معادلاتٍ جديدة، من نوعية "تحرير الشرعية من الشخص"، بغية الانطلاق بها وبالثورة إلى نطاق أرحب وأشمل.
ومع كل الاحترام والتقدير لأصحاب هذا المنطق، ومن دون الطعن والتشكيك في المقاصد والطوايا، يبدو الأمر تحليقا في سماء الميتافيزيقا الثورية، قفزاً على وقائع ملموسة ناطقة، على نحو مغرقٍ في المثالية، بما يتجاوز مثالية أفلاطون نفسها، مع ملاحظة أن "المثالية"، هنا، لا يقصد بها أحكام قيمية أو أخلاقية، وإنما بمعناها الفلسفي البحت.
وظني أنه، كما لا يوجد انتصار من دون منتصرين، ولا هزيمة بلا مهزومين، ولا جريمة بلا مجرمين، ولا رسالة بغير رسل، كذلك لا توجد شرعية من دون أشخاص شرعيين.
أفلاطون نفسه، بوصفه مؤسس المثالية، لم يذهب إلى إمكانية سلخ الأفكار والمفاهيم عن تجسدها وتحققها الواقعي، على نحو كامل، حيث ذهب إلى أن هناك ثلاث أدوات لابد من توفرها لمعرفة أي شيء، أولاها الاسم، وثانيتها التعريف، وثالثتها التمثّل.
وبهذا القياس، "تمثّلت" الشرعية الثورية (كمفهوم أو مبدأ أو فكرة) في شخص أو تجربة حكم اسمها محمد مرسي.
بجلاء أكثر، ونقاءٍ أوضح، يذهب قائد حركة التنوير في ألمانيا وأوروبا، الفيلسوف إيمانويل كانط، وهو يبحث في "أنطولوجيا الوجود" إلى أن الفكرة هي المبدأ العقلي الذي يؤسس وجود الأشياء. لكن، ليس لها وجود مستقل عن الأشياء، كما هو الحال عند أفلاطون، بل إنها يجب أن تترابط مع الإدراكات، لكي تكون لها واقعية موضوعية.
وبذلك، لا يمكن الحديث عن ديكتاتورية، وجوداً وعدماً، بغير ديكتاتور، ولا عن شرعية حكم مستعادة، بغير حاكم شرعي، ولا عن نضال وصمود وكفاح من أجل الحق، كمبدأ، من دون الإنصات إلى المناضلين الصامدين المكافحين تحت التعذيب في سجون السلطة الحرام.
ويبقى التسليم بإمكانية استعادة شرعية، بغير رئيس شرعي، مثل التسليم باستمرار الانقلاب، مع إزاحة عبد الفتاح السيسي.
وليس معنى أن الرئيس مرسي وفريقه في الحكم ارتكبوا أخطاء في الأداء والإدارة ساعدت الذين ارتكبوا جريمة الانقلاب عليه، أن نسقط من حساباتنا أنهم أصحاب شرعية مستحقة، بموجب عمليةٍ سياسيةٍ سليمة، ارتضى بشروطها الجميع.
والأصح والأجدر أن نكون مع الحق، حتى لو كان في جانب الذين لا يعجبوننا، ولو كان أحمد شفيق قد جاء إلى الحكم، فائزا على محمد مرسي، ووقع انقلاب عليه، لكنت من المدافعين عن شرعيته.
فلننتصر للمبدأ، ونتمثله، كي لا ينقلب أي سيسي على أي مرسي. وليس معنى أن حجم الحراك الحالي أقل من أن يؤدي إلى دحر الانقلاب أن ننسف الأسس الأخلاقية والقيمية والحضارية لهذا الحراك، ونستبدلها بأخرى.
فلننصت إلى الأنين الصامد، المنبعث من المعذبين داخل سجون العقرب وطره وغيرهما، ونتعلم منه معنى الاستمساك بالثورة وشرعيتها، كما نتعلم من بلاغة الحجر الفلسطيني في مواجهة القوة الجبارة لواقع الاحتلال الصهيوني.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق