مات هيكل: نكبة الأمة العربية
ا.محمد إلهامي
باحث في التاريخ والحضارة الإسلامية، متابع للشأن السياسي.
“إن كنتم قد هزمتم جيلنا بالمدفع والدبابة، فقد هزمناكم بالكلمة، وغدا يأتي جيل يبصق على قبوركم وصحافتكم ودبابات أتت بكم وأضاعت الوطن”.
محمد جلال كشك مخاطبا محمد حسنين هيكل
(1)
ماذا بوسع المرء أن يكتب عن هيكل!
إن الأمر ثقيل كبير، وواسع ممتد، فلم يكن هيكل مجرد فيلسوف منافق، ولا صحفي أفاق، ولا كاهن في معبد الاستبداد، ولا هو مجرد خائن لأمته ومُضِلٍّ لقرائه، هيكل هو كل هذا معا، هيكل هو أشهر وأكبر مزور للتاريخ في القرن العشرين، هيكل لم يكن كاتبا للتاريخ فحسب، بل صانعا له، ولقد مات هيكل ولم ينكشف كل سره، ولا ينكشف سر هيكل إلا بسقوط دولة العسكر كلها، حينئذ تظهر الروايات الخفية التي يمنع انتشارها قوة السلطة أو الخوف منها، فهيكل عمود من أعمدة الدولة العسكرية البغيضة التي ابتليت بها مصر منذ انقلاب 1952، وهو العهد الذي ذاقت فيه مصر أظلم عصورها على الإطلاق، فلا يقاس بحقبة العسكر شيء: لا حقبة الاحتلال الإنجليزي ولا حقبة محمد علي ولا حقبة العثمانيين ولا حقبة المماليك، كل هذه الأحقاب هي جنة وارفة إذا قورنت بحقبة العسكر، ولكن ليس يعلم هذه الحقيقة من يجهل التاريخ، فالتاريخ هو مصباح الضوء الوحيد الذي يكشف حقيقة الحاضر في ميزان الماضي.فماذا بوسع المرء أن يكتب عن هيكل، وهو عمود من أعمدة هذه الحقبة؟
إن المرء حيث ولى وجهه يلتمس الكتابة ارتد إليه القلم خاسئا وهو حسير، لسان حاله مقالة الشاعر:
من أين تبدأ هذا البوح يا قلم .. أم كيف تصبر والأحداث تزدحم
هذا النزيف على جنبيك منبثق .. وفي فؤادك من فرط الأسى ألم
(2)
وحيث كان لا بد من الاختيار فقد آثرت أن أكتب فيما هو أبعد شيء
عن التصديق لمن لا يعرف هيكل.
هل تعرف أن هيكل كان ببساطة: توفيق عكاشة عصره؟
شيء لا يصدق!
نعم!
صحيح أن هيكل لديه من الثقافة الموسوعية ورشاقة القلم
وموهبة الصحافة والإعلام ما لا يجوز مقارنته بتوفيق عكاشة، إلا أن
هذا هو ما يظهر لأهل زماننا هذا؛ إذ لو استمر حكم العسكر لصار الجيل الذي سيأتي بعد ستين سنة يتعامل مع توفيق عكاشة بذات الإعجاب والانبهار الذي يتعامل به الجيل الحالي مع هيكل.
وهذا الفارق نفسه بين هيكل وبين توفيق عكاشة ما هو إلا حصاد حكم العسكر، لقد كان صحافي السلطان في عصر عبد الناصر نتاجا للثقافة والتعليم في عصر الملكية والاحتلال الإنجليزي، لذا كان المستوى الموجود على قدر مصطفى أمين وعلي أمين وهيكل، أما بعد استقرار حكم العسكر لستين سنة وإنتاجهم أجيالا جديدة لم تجد السلطة إعلاميا يعبر عنها إلا أن يكون في مستوى توفيق عكاشة وعمرو أديب والإبراشي والجلاد ممن لا يستطيع أحدهم تأليف كتاب أو حتى الحديث لخمس دقائق بلغة عربية سلمية!
لكن الشبه بين هيكل وتوفيق عكاشة لا ينحصر في كون كل منهما لسان السلطة المجرمة، بل في تلك القدرة المثيرة للدهشة – والاحتقار معا – على تزوير التاريخ والواقع، ولقد كان عكاشة سيئ الحظ في عصر اليوتيوب والباحثات الإلكترونية التي تأتيه بتقلباته وتلونه، بينما كان هيكل محتاجا إلى مثقف يتتبع إنتاجه ليرصد تزويره للتاريخ، بل تعديله للرواية الواحدة في الكتاب الجديد، بل اختلاف ما يكتبه في الطبعة الإنجليزية عما يكتبه في الطبعة العربية، فيقول بعض الحقيقة لقرائه الأجانب بينما يمارس التهريج على قرائه العرب! وسنأتي لتفصيل هذا بعد قليل.
وهما يتشابهان كذلك في تلك القدرة المثيرة للدهشة وللاحتقار أيضا على تزييف الواقع وتسمية الأمور لا بغير مسمياتها، وإنما بضد مسمياتها، فمثلما اعتبر عكاشة نفسه “مفجر ثورة 30 يونيو”، كان هيكل قبله بعقود يسوق لقرائه أن حرب 1956 هي “أكمل نصر عربي في العصر الحديث”! ولك أن تضع من علامات التعجب والذهول ما تشاء لتسأل بعدئذ عن معنى كلمة النصر ومعنى كلمة الهزيمة في قاموس هيكل!
هيكل بشَّر قراءه عند نكبة 67 بأنهم قرروا تلقي الضربة الأولى! هذا بعد أن كانت كل الأحداث تثبت أن مصر هي التي تسير إلى الحرب وتطلب من الأمم المتحدة سحب البوليس الدولي! ثم إنهم بعد أن قرروا تلقي الضربة الأولى، لم ينتصروا كما هو متوقع ممن “قرر تلقي ضربة”، بل اكتسحتهم إسرائيل اكتساحا تاريخيا غير مسبوق، فإذا به يبشر قراءه للمرة الثانية بأنهم لو كانوا بدأوا بالهجوم لم يكونوا لينتصروا كذلك، إذن ماذا كنتم تفعلون؟ ولماذا سرتم إلى الحرب هذا السير الحثيث؟
نعم، كانوا يقضون وقتهم في التفتيش عن مصطلح مخنث، ولذلك كان إنجاز هيكل في هذا الحرب هو ابتكاره لفظ “نكسة” ليعبر بها عن هذا الاكتساح التاريخي في تاريخ الحروب، ثم ليتحول هذا بعدئذ إلى نصر! أي والله “نصر”! لماذا؟ لأن إسرائيل لم تنجح في إسقاط الزعيم!
هل تذكر ما فعله عكاشة في حرب غزة؟ هل تذكر كيف كان حقده يسيل على المقاومة والغزاويين؟ مثل هذا كان يفعله هيكل: فهو مع تيتو الزعيم الشيوعي اليوغوسلافي مهما كانت مجازره ضد المسلمين، وهو مع غاندي ونهرو والهندوس ضد باكستان والمسلمين في الهند، وهو مع هيلاسيلاسي سفاح الحبشة ضد المسلمين هناك، ويصاغ كل هذا بعبارات السياسة والقومية والمصالح الوطنية ولا يدري القارئ المسكين ما خلف الصورة!
هذا بعض من بعض من بعض ما فعله هيكل، لم يكن إلا توفيق عكاشة عصره! إلا أن عكاشة عصرنا كان سيئ الحظ؛ إذ نشأ في مدارس العسكر، ودرج في إعلام العسكر، فجاء أحمق أخرق سفيها سخيفا عيي اللسان والعقل، وجاء في عصر اليوتيوب والفضائيات حيث يستطيع الناس سماع غيره، أما هيكل فلقد كان سعيد الحظ؛ إذ نشأ في تعليم وثقافة عصر المليكة والاحتلال فكان موهوبا وفصيحا، ثم كان في عصر الصوت الواحد حيث لا يستطيع أحد أن يسمع شيئا لا يريده هيكل ولا زعيمه!
أمر ثالث كان عكاشة سيئ الحظ فيه، وهو أنه عمل في خدمة المخابرات الحربية، بينما كان أستاذه هيكل أعلى قدرا بمواهبه ولظروف التاريخ الانتقالية التي حتمت قدوم الأمريكان عند غروب الإنجليز، لقد كان أستاذه عميلا للأمريكان مباشرة!
صحيح أن هيكل لديه من الثقافة الموسوعية ورشاقة القلم
وموهبة الصحافة والإعلام ما لا يجوز مقارنته بتوفيق عكاشة، إلا أن
هذا هو ما يظهر لأهل زماننا هذا؛ إذ لو استمر حكم العسكر لصار الجيل الذي سيأتي بعد ستين سنة يتعامل مع توفيق عكاشة بذات الإعجاب والانبهار الذي يتعامل به الجيل الحالي مع هيكل.
وهذا الفارق نفسه بين هيكل وبين توفيق عكاشة ما هو إلا حصاد حكم العسكر، لقد كان صحافي السلطان في عصر عبد الناصر نتاجا للثقافة والتعليم في عصر الملكية والاحتلال الإنجليزي، لذا كان المستوى الموجود على قدر مصطفى أمين وعلي أمين وهيكل، أما بعد استقرار حكم العسكر لستين سنة وإنتاجهم أجيالا جديدة لم تجد السلطة إعلاميا يعبر عنها إلا أن يكون في مستوى توفيق عكاشة وعمرو أديب والإبراشي والجلاد ممن لا يستطيع أحدهم تأليف كتاب أو حتى الحديث لخمس دقائق بلغة عربية سلمية!
لكن الشبه بين هيكل وتوفيق عكاشة لا ينحصر في كون كل منهما لسان السلطة المجرمة، بل في تلك القدرة المثيرة للدهشة – والاحتقار معا – على تزوير التاريخ والواقع، ولقد كان عكاشة سيئ الحظ في عصر اليوتيوب والباحثات الإلكترونية التي تأتيه بتقلباته وتلونه، بينما كان هيكل محتاجا إلى مثقف يتتبع إنتاجه ليرصد تزويره للتاريخ، بل تعديله للرواية الواحدة في الكتاب الجديد، بل اختلاف ما يكتبه في الطبعة الإنجليزية عما يكتبه في الطبعة العربية، فيقول بعض الحقيقة لقرائه الأجانب بينما يمارس التهريج على قرائه العرب! وسنأتي لتفصيل هذا بعد قليل.
وهما يتشابهان كذلك في تلك القدرة المثيرة للدهشة وللاحتقار أيضا على تزييف الواقع وتسمية الأمور لا بغير مسمياتها، وإنما بضد مسمياتها، فمثلما اعتبر عكاشة نفسه “مفجر ثورة 30 يونيو”، كان هيكل قبله بعقود يسوق لقرائه أن حرب 1956 هي “أكمل نصر عربي في العصر الحديث”! ولك أن تضع من علامات التعجب والذهول ما تشاء لتسأل بعدئذ عن معنى كلمة النصر ومعنى كلمة الهزيمة في قاموس هيكل!
هيكل بشَّر قراءه عند نكبة 67 بأنهم قرروا تلقي الضربة الأولى! هذا بعد أن كانت كل الأحداث تثبت أن مصر هي التي تسير إلى الحرب وتطلب من الأمم المتحدة سحب البوليس الدولي! ثم إنهم بعد أن قرروا تلقي الضربة الأولى، لم ينتصروا كما هو متوقع ممن “قرر تلقي ضربة”، بل اكتسحتهم إسرائيل اكتساحا تاريخيا غير مسبوق، فإذا به يبشر قراءه للمرة الثانية بأنهم لو كانوا بدأوا بالهجوم لم يكونوا لينتصروا كذلك، إذن ماذا كنتم تفعلون؟ ولماذا سرتم إلى الحرب هذا السير الحثيث؟
نعم، كانوا يقضون وقتهم في التفتيش عن مصطلح مخنث، ولذلك كان إنجاز هيكل في هذا الحرب هو ابتكاره لفظ “نكسة” ليعبر بها عن هذا الاكتساح التاريخي في تاريخ الحروب، ثم ليتحول هذا بعدئذ إلى نصر! أي والله “نصر”! لماذا؟ لأن إسرائيل لم تنجح في إسقاط الزعيم!
هل تذكر ما فعله عكاشة في حرب غزة؟ هل تذكر كيف كان حقده يسيل على المقاومة والغزاويين؟ مثل هذا كان يفعله هيكل: فهو مع تيتو الزعيم الشيوعي اليوغوسلافي مهما كانت مجازره ضد المسلمين، وهو مع غاندي ونهرو والهندوس ضد باكستان والمسلمين في الهند، وهو مع هيلاسيلاسي سفاح الحبشة ضد المسلمين هناك، ويصاغ كل هذا بعبارات السياسة والقومية والمصالح الوطنية ولا يدري القارئ المسكين ما خلف الصورة!
هذا بعض من بعض من بعض ما فعله هيكل، لم يكن إلا توفيق عكاشة عصره! إلا أن عكاشة عصرنا كان سيئ الحظ؛ إذ نشأ في مدارس العسكر، ودرج في إعلام العسكر، فجاء أحمق أخرق سفيها سخيفا عيي اللسان والعقل، وجاء في عصر اليوتيوب والفضائيات حيث يستطيع الناس سماع غيره، أما هيكل فلقد كان سعيد الحظ؛ إذ نشأ في تعليم وثقافة عصر المليكة والاحتلال فكان موهوبا وفصيحا، ثم كان في عصر الصوت الواحد حيث لا يستطيع أحد أن يسمع شيئا لا يريده هيكل ولا زعيمه!
أمر ثالث كان عكاشة سيئ الحظ فيه، وهو أنه عمل في خدمة المخابرات الحربية، بينما كان أستاذه هيكل أعلى قدرا بمواهبه ولظروف التاريخ الانتقالية التي حتمت قدوم الأمريكان عند غروب الإنجليز، لقد كان أستاذه عميلا للأمريكان مباشرة!
(3)
هل تعلم أن هيكل كان عميلا للمخابرات الأمريكية؟
شيء لا يصدق أيضا!
لا تتعجل، اسمع هذه القصة!
ذات يوم مكفهر عام 1965، انقلبت الأيام على مصطفى أمين، مؤسس دار أخبار اليوم، ووجد الرجل نفسه في السجن من بعد ما عاش حياة رغيدة على عرش الصحافة المصرية منذ 1944، لم يُعرف بدقة أسباب هذا الانقلاب من عبد الناصر عليه، إلا أن التهمة التي وجهت له كانت: التجسس لحساب الأمريكان!
في السجن حاول مصطفى أمين استعطاف عبد الناصر، فكتب رسالة سجل فيها اعترافاته، وذكر فيها لقاءاته مع رجال المخابرات الأمريكية منذ منتصف الأربعينات، وسرد فيها بالأسماء تواصله معهم ولقاءاته بهم وأماكنها وماذا حصل عليه من المعلومات منهم، وماذا أعطى لهم، وكيف سهلوا له لقاءا بمدير المخابرات الأمريكية “آلان دالاس”، وكيف كان هو الخط الخلفي لدولة عبد الناصر في التواصل مع الأمريكان، وكيف كان مخلصا له في كل هذه الاتصالات وأنه قام من خلالها بأشياء عظيمة لمصلحة الوطن ومصلحة عبد الناصر، وذكر له كل هذا في صيغة استعطاف تذكره بالأيام الخوالي وكيف وقف معه ضد محمد نجيب، وكيف أعطاه معلومات مهمة من السفارة الأمريكية … إلخ!
قيمة رسالة مصطفى أمين هذه أنها وثيقة تثبت صناعة انقلاب يوليو على أيدي رجال المخابرات الأمريكية، لكن المهم في سياقنا الآن أن مصطفى أمين وهو يقول هذا كله، ظل يؤكد على عبارة يكررها كثيرا إثباتا لصدقه، وهو أن كل هذه اللقاءات كانت بحضور محمد حسنين هيكل!
في ذلك الوقت كان هيكل تلميذ مصطفى أمين، والرجل الثالث في دار أخبار اليوم، ومديرا لعدد من إصداراتها، وكانت أخبار اليوم منذ نشأتها صوت الاستبداد والاحتلال، الصوت المضاد للحركة الوطنية ضد الملك والإنجليز، ثم ظهر بوضوح أنها تابعة للأمريكان منذ نوى الأمريكان في مطلع الخمسينات انتزاع مصر من التركة البريطانية فتحولت للهجوم على الملك والإنجليز، ثم بعيد الانقلاب شنت حملة كبرى على محمد نجيب.
[انظر الرسالة وتعليق هيكل عليها في كتاب هيكل “بين الصحافة والسياسة” ص155 وما بعدها. ط6 شركة المطبوعات 1985م، وانظر تعليق محمد جلال كشك على الرسالة وعلى تعليق هيكل في كتابه “ثورة يوليو الأمريكية” ص273 وما بعدها. ط2 دار الزهراء للإعلام العربي 1988م].
وما يهمنا في كل ذلك أن هيكل الذي سن قلمه عندئذ للهجوم على مصطفى أمين وأخيه علي أمين وإثبات تهمة التجسس على أستاذه القديم، لم يكن إلا الطرف الثالث الحاضر في أغلب اجتماعات مصطفى أمين برجال المخابرات الأمريكية، وأحيانا كانت الاجتماعات تجري في مكتب هيكل نفسه.
وقد صحَّ ظن جلال كشك وخاب استفزازه، وظل هيكل حيا لنحو ثلث قرن بعد هذا الكلام ولم يثأر لشرفه، رغم أنه اطلع عليه، واستشهد بهذا الكتاب نفسه في روايات أخرى وافقت رأيه.
طال المقال أيضا رغما عني، وكنت أنوي أن أضرب بعض الأمثلة عن تزويره للتاريخ، كما كنت أود أن أثير بعض الأسئلة عن موقع حسنين هيكل من خريطة السياسة العالمية، ولعل ذلك يكون في مقالات قادمة إن شاء الله تعالى.
لكن ما لا يجب بحال أن يفوت في هذا المقام هو لفت النظر إلى أستاذنا العملاق الراحل الأستاذ محمد جلال كشك رحمه الله، والذي تصدى لهيكل تصديا عنيفا، وتحداه كثيرا تحديا مهينا، وتعقب تزويره للتاريخ في كتبه، وكان من الطاقة والقوة بحيث يقرأ كتاباته بالعربية والإنجليزية ويستخرج الفوارق بينهما، بل لقد بلغ به الأمر مرة أن كتب في أخبار اليوم مقالا بعنوان: “ما لن ينشره هيكل من الطبعة العربية في كتابه عن حرب الخليج”، وكان جلال كشك قد قرأ كتابه عن حرب الخليج في النسخة الإنجليزية وفيه ما يفضح ملك الأردن، فتحداه بهذا المقال الخطير، ثم خرج كتاب هيكل بالعربية “حرب الخليج أوهام القوة والنصر” خاليا مما تحداه به جلال كشك، وأصدر جلال كشك كتابا صغيرا عن هذا أسماه “الفضيحة: هيكل يزور التاريخ لحساب الملك حسين”.
ولم يفكر هيكل مرة في الرد على جلال كشك في حياته ولا بعد موته فيما أعلم، إلا أنه ظل متحفزا بكل طاقته لضرب جلال كشك، وأتذكر أني كنت أتتبع تراث جلال كشك على الإنترنت فوقعت على مقال صحفي مصري يعيش في السويد دخل في نزاع قضائي مع جلال كشك، فلم يجد إلا أن يراسل هيكل، ومن فوره تحرك هيكل ليجعل المحامي عن هذا الصحفي هو يحيى الجمل شخصيا!
ويعد كتاب جلال كشك “ثورة يوليو الأمريكية” أقيم وأفضل ما يمكن قراءته في بيان تزوير هيكل للتاريخ، وفي إثبات ارتباط انقلاب يوليو بالمخابرات الأمريكية.
يستطيع جلال كشك الآن أن يقرَّ عينا في قبره، فقد مات هيكل وقد رأى بنفسه الجيل الذي بصق عليه وعلى قبره وعلى صحافته، وإن لم يستطع الجيل أن يحطم المدفع والدبابة بعد.
لقد مات هيكل ولا يكاد في الشباب أحد يثني عليه أو يترحم عليه، ولا يكاد فيهم أحد يحترم مؤسساته التي عمل بها أو أنشأها: لا الأهرام ولا الأخبار ولا حتى مؤسسات تلاميذه التي لا زالت عاهرة تنام على فراش الحاكم العسكري، لقد صارت حقبة العسكر مبغوضة ملعونة، وصار هيكل وأقران هيكل وتلاميذ هيكل لعنة عند جيل الشباب الجديد.
وفي غد غير بعيد، يأتي جيل الدبابة والمدفع ليدك حصون العسكر ويطوي صفحتهم السوداء الملعونة التي ألقت بثقلها ودنسها على هذا البلد الكريم في تلك الأمة الخالدة.
لم يستطع هيكل أن يدفع عن نفسه هذه التهمة إلا بحيلة بهلوانية، فقال بأن مصطفى أمين لديه حالة نفسية وأنه يتوهم أشياء لم تحدث ويرويها وهو مقتنع بصدقها، فهو ليس كذابا ولا يستدعي الأمر تحليلا، وإنما يستدعي الأمر طبيبا نفسيا!(انظر ص249 من كتابه “بين الصحافة والسياسة”).
لم ينف هيكل إلا واقعتين من بين سائر الوقائع التي سردها مصطفى أمين، بالأسماء والأماكن وأحيانا بالتواريخ، وهو ما يجعلنا نثق أكثر برسالة مصطفى أمين لأنها موثقة، ولأنها في مقام الاعتراف والتوسل، ولأن هيكل صاحب مصلحة في نفي هذه التهمة بطبيعة الحال!
لكن أقوى ما يجعلنا نثق في رسالة مصطفى أمين هو أن تهمة العمالة للمخابرات الأمريكية ترد في مذكرات رجال المخابرات الأمريكية الذين عملوا في مصر في هذه الفترة، فالذين تعرضوا لعلاقة المخابرات الأمريكية بالصحافة المصرية ذكروا أن المخابرات استطاعت تجنيد: مصطفى أمين وعلي أمين ومحمد حسنين هيكل.
هذا الكلام قاله مايلز كوبلاند صاحب الكتاب الأشهر “لعبة الأمم”، وقاله – بأوضح عبارة – ولبر كراين إيفيلاند صاحب كتاب “حبال الرمال”، فصرح بأنه “في مطلع الخمسينات جندت المخابرات الأمريكية ثلاثة من الصحفيين المصريين هم: محمد حسنين هيكل والأخوين مصطفى وعلي أمين”.
وحين نشر هذا الكتاب الأخير، استفز الأمر جلال كشك رحمه الله، فنشر القضية في مطبوعة “رسالة التوحيد” التي كان يحررها وحده (العدد الثاني، ديسمبر 1985م)، وفيها مارس جلال كشك أقسى ما يستطيع كاتب أن يمارسه من الاستفزاز ليدفع هيكل للرد على هذا الاتهام. فقال:
“والمطلوب الآن إن كان ما قاله كذبا – وهو لا يزال على قيد الحياة بالمناسبة – المطلوب هو أن يرفع هيكل ومصطفى أمين قضية على الكاتب الأمريكي، ويطلب كل منهما تعويضا مائة مليون دولار، فما من إساءة أو إضرار بمكن أن يصيب مؤرخ الناصرية مثل اتهامه بالعمالة للمخابرات الأمريكية … إذا جرؤ هيكل على مجرد رفع القضية أمام القضاء الأمريكي فإن الشك سيزعزع الاتهام، وإذا استمر في القضية وحكم له القضاء فقد سقط الاتهام إلى الأبد، وحق له أن يجلس على منصة القضاء يتهم أساتذته [يقصد مصطفى أمين] وله علينا، وهذا عهد أمام الله والناس أن نطوف سبعة عشر مرة حفاة عراة إلا مما يحتمه القانون حول قبر الزعيم الخالد تائبين نادمين، نحثو التراب على رؤوسنا! أما إذا لم يفعل ولن يفعل، فلماذا لا تطالبه نقابة الصحفيين بتوضيح موقفه من هذا الاتهام الذي يمس بصورة أو أخرى سمعة الصحافة المصرية كلها، فهذا اتهام معيب فاضح مشين منشور في كتاب طبع وبيع منه ما يقرب من مائة ألف نسخة، فلماذا يسكت وفي أمريكا قضاء؟ وإذا كان يشكو التكاليف فمن الممكن أن تتضامن معه النقابة، فهي قضية تمس شرف عميد الصحفيين الناصريين، بل إننا هنا في “رسالة التوحيد” على استعداد للتضامن معه بكل ما نطيق، فقط إذا استجمع شجاعته ولجأ إلى القضاء يدافع عن شرفه، وشرف من ائتمنه على تاريخه”.
(4)
طال المقال أيضا رغما عني، وكنت أنوي أن أضرب بعض الأمثلة عن تزويره للتاريخ، كما كنت أود أن أثير بعض الأسئلة عن موقع حسنين هيكل من خريطة السياسة العالمية، ولعل ذلك يكون في مقالات قادمة إن شاء الله تعالى.
لكن ما لا يجب بحال أن يفوت في هذا المقام هو لفت النظر إلى أستاذنا العملاق الراحل الأستاذ محمد جلال كشك رحمه الله، والذي تصدى لهيكل تصديا عنيفا، وتحداه كثيرا تحديا مهينا، وتعقب تزويره للتاريخ في كتبه، وكان من الطاقة والقوة بحيث يقرأ كتاباته بالعربية والإنجليزية ويستخرج الفوارق بينهما، بل لقد بلغ به الأمر مرة أن كتب في أخبار اليوم مقالا بعنوان: “ما لن ينشره هيكل من الطبعة العربية في كتابه عن حرب الخليج”، وكان جلال كشك قد قرأ كتابه عن حرب الخليج في النسخة الإنجليزية وفيه ما يفضح ملك الأردن، فتحداه بهذا المقال الخطير، ثم خرج كتاب هيكل بالعربية “حرب الخليج أوهام القوة والنصر” خاليا مما تحداه به جلال كشك، وأصدر جلال كشك كتابا صغيرا عن هذا أسماه “الفضيحة: هيكل يزور التاريخ لحساب الملك حسين”.
ولم يفكر هيكل مرة في الرد على جلال كشك في حياته ولا بعد موته فيما أعلم، إلا أنه ظل متحفزا بكل طاقته لضرب جلال كشك، وأتذكر أني كنت أتتبع تراث جلال كشك على الإنترنت فوقعت على مقال صحفي مصري يعيش في السويد دخل في نزاع قضائي مع جلال كشك، فلم يجد إلا أن يراسل هيكل، ومن فوره تحرك هيكل ليجعل المحامي عن هذا الصحفي هو يحيى الجمل شخصيا!
ويعد كتاب جلال كشك “ثورة يوليو الأمريكية” أقيم وأفضل ما يمكن قراءته في بيان تزوير هيكل للتاريخ، وفي إثبات ارتباط انقلاب يوليو بالمخابرات الأمريكية.
(5)
يستطيع جلال كشك الآن أن يقرَّ عينا في قبره، فقد مات هيكل وقد رأى بنفسه الجيل الذي بصق عليه وعلى قبره وعلى صحافته، وإن لم يستطع الجيل أن يحطم المدفع والدبابة بعد.
لقد مات هيكل ولا يكاد في الشباب أحد يثني عليه أو يترحم عليه، ولا يكاد فيهم أحد يحترم مؤسساته التي عمل بها أو أنشأها: لا الأهرام ولا الأخبار ولا حتى مؤسسات تلاميذه التي لا زالت عاهرة تنام على فراش الحاكم العسكري، لقد صارت حقبة العسكر مبغوضة ملعونة، وصار هيكل وأقران هيكل وتلاميذ هيكل لعنة عند جيل الشباب الجديد.
وفي غد غير بعيد، يأتي جيل الدبابة والمدفع ليدك حصون العسكر ويطوي صفحتهم السوداء الملعونة التي ألقت بثقلها ودنسها على هذا البلد الكريم في تلك الأمة الخالدة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق