وائل قنديل
ماذا لو ضحّى عبد الفتاح السيسي بوزير داخليته، كما فعل مع أحمد الزند وتوفيق عكاشة؟ وماذا لو لم يتخذ قراره بخطف رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات، هشام جنينة، من موقعه، ليخفيه ويعزله عن العالم؟
هل سيكون السيسي حلواً ونزيهاً وزعيماً مخلصاً وقتها؟!
بصرف النظر عن أن عبد الفتاح السيسي لن يفعل شيئاً من ذلك، فإن ذهاب بعض السياسيين إلى افتراض أن هذا النظام، بعد كل هذا الكم من الجرائم والكوارث التي صنعها، يمكن أن يستقرّ في ورش الإصلاح السياسي، هو نوع من العبث، يقترب من مرحلة الدجل السياسي والانسلاخ من المنطق ومن العدل بالكليّة.
وقائع السنوات الثلاث في مسيرة الانقلاب العسكري تقول إن هذا نظام يستعصي على الإصلاح، فضلاً عن أن التعاطي مع جرائمه، باعتبارها أخطاءً، لو تم إصلاحها، فلا غبار عليه، هو، بحد ذاته، إقرارٌ واعتراف وإذعان للجريمة، وتسليمٌ بنتائجها، ومكافأة للقاتل والمعذِّب على فظائعه، إنْ أقدم على بناء دار عبادة أو افتتح داراً خيرية، أو منح أطفال ضحاياه ألعاباً ووروداً.
فإذا وضعت في الحسبان أن نظام الحكم الحالي لن يفعل شيئاً ممّا سبق، وأنه يحيا على مخزونٍ هائل من القبح في الفكرة والممارسة السياسيتين، فإن الوقوف على أبوابه بالنصائح والطلبات والعبوات النقدية اللطيفة يصبح بمثابة مشاركةٍ في كل ما فعل من إراقة دماء وظلم أبرياء والانخفاض بوطنٍ إلى ما دون مستوى مغارات اللصوص وقطّاع الطرق.
وقبل ذلك، يعبّر عن حالة خوفٍ تتملّك الناصحين الجدد، الحريصين على مصلحة النظام، أو الذين يحبونه "بشرط" ويكرهون كل من يسعى إلى، أو يتمنى، سقوطه، رحمةً بمصر من كل هذا التدني.
ليست هذه المرة الأولى التي يعبّر فيها مثقفون وسياسيون من المعارضة الجذرية إلى الرغبة الخجولة في إصلاح (مصالحة تبدو أوقع) النظام، من خلال عرائض الاسترحام المغلّف بطبقةٍ من زبدة الانتقاد الخفيف، على وقع الهجمة الجديدة على المراكز الحقوقية، وعملية القرصنة على الجهاز المركزي للمحاسبات واختطاف رئيسه وعزله، إذ لا يمكن تصوّر أن السادة الذين "يناشدون" السلطة تخفيف قبضتها عن المجتمع المدني يؤمنون حقاً بأن النظام الحاكم يمكن أن يستمع ويستوعب ويعقل، وعلى ذلك تصبح المسألة كلها نوعاً من منح شرعيةٍ أخلاقيةٍ وإنسانيةٍ لممارسات وجرائم ضد الإنسانية والأخلاقية.
وأذكر أنه، قبل عام كامل، أقدمت مجموعة من المثقفين والسياسيين على خطوةٍ مماثلةٍ، في لحظةٍ كان النظام يبدو فيها مجرداً من أية قيمة، أو كما وصفتها في وقتها "تلك هذه الحالة من انعدام الوزن أو فقدان الاتزان البادية على أداء النظام، ليأتي التحرّك المفزوع من جانب مجموعة من مثقفيه لجمع التوقيعات على عريضةٍ مرفوعةٍ لقائد الانقلاب، تطالبه فيها بإقالة وزير الداخلية، والإفراج عن النشطاء السياسيين، في تصرّفٍ ينتمي إلى زمن حسني مبارك، شكلاً وموضوعاً، حينما كانت الفلسفة التي يتم على أساسها تعيين رئيس للحكومة أن يلعب دور الإسفنجة، لامتصاص رذاذ النقد المتطاير للنظام، أو يكون مجرد حائطٍ يتلقى رميات المعارضين، فيما يبقى رئيس الدولة هو الرجل الكبير والأب الرحيم".
وأكرّر، هنا، أنه من العبث اختزال الأزمة المصرية في شخص وزير الداخلية، عند الحديث عن حالة العداء العام للحريات وحقوق الإنسان، أو أن يتصوّر أحدٌ أن رد الاعتبار للعلم والعقل يمكن أن يتحقّق بإزاحة لواء اختراع الكفتة المزيّف من المشهد.
مرة أخرى، لا أحد يصادر حرية أحدٍ في أن يكون جزءاً من نظام عسكري جاء بانقلابٍ دموي قتل آلافاً من البشر، وسجن وشرّد عشرات الآلاف الآخرين، واغتصب مصرياتٍ وعذّب مصريين، ولا أحد يجرؤ على معاقبته على اختيار دور جديدٍ كمعارضٍ للنظام من الداخل، داخل النظام، لا داخل الوطن، فقط نرجوه ألا يسفّه فكرة معارضة سلطةٍ هي الأسوأ في القمع، والأخسّ في الانتقام والتنكيل، من الخارج، ويعتبر كل كلمةٍ عن كوارثه شماتةً وتشفياً في الوطن.
من حقك أن تسترد حريتك المستحقة، من دون أن تكون رسوم استردادها من حساب معارضين حقيقيين، معظمهم لم يختر المنافي طوعاً، بل وجد نفسه فيها بالإكراه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق