الأحد، 8 أكتوبر 2017

النموذج المهيمن في التحليل السياسي لدى الإسلاميين!

النموذج المهيمن في التحليل السياسي لدى الإسلاميين!

ساري عرابي

الحركات الإسلامية، ومنذ تأسيس جماعة الإخوان المسلمين، هي واحدة من أهم الفاعلين في المنطقة العربية والإسلامية، وتتجاوز فاعليتها هذا الحيّز إلى العالم، وربما هي، ورغم انكساراتها الضخمة أخيرًا، الفاعل الأهم بالنسبة للفاعلين غير التقليديين، أي من خارج الدول والنظم الحاكمة وتشكيلاتها، وذلك بعدما خسرت الفعاليات الجماهيرية الأخرى كاليسارية والقومية -التي غطت المشهد العربي يومًا ما- وزنها الذاتي، ولولا أن ميزان القوّة الذي يحكم العلاقات الإنسانية لم يزل رجحانه فاحشًا لصالح خصوم تلك الحركات الإسلامية، وأعدائها، لكانت الفاعل الأهم في مستويات الفاعلية السياسية كلها.

حركات هذا شأنها، وهذا حجمها، وقد تعلّقت بها وحدها آمال الجماهير بعد تراجع وانحسار بقية الفعاليات التي زاحمت الإسلاميين أو غالبتهم من قبل، وتعرضت لهذه الانكسارات الخطيرة أخيرًا؛ مطالبة دائمًا بتقديم تحليل سياسي صارم، لفهم الأحداث الجارية بصرف النظر عن طبيعتها، أو مستوى تعلقها بها، وبالضرورة يدخل في ذلك ما يُمكن أن يُعدّ تراجعًا أو هزيمة. هذا التحليل هو ضرورة لتصحيح المسار، وواجب على القيادة وكل من يمكنه المساهمة في ذلك، وحقّ لمجمل الفاعلين في إطار الحركة.

"داعش" تنتسب لنموذج سلفيّ يستبطن تصورًا باستعادة الجماعة لنموذج السلف المتخيَّل، الذي تجسّد فيه، بحسب الإيديولوجيا السلفية عمومًا، الوحي، بفرعيه القرآن والسنة
رويترز
بيد أن المتابع لسجالات الإسلاميين عمومًا من داخلهم، يجد أن نموذجًا مهيمنًا، غلب على أدوات الإسلاميين في تناول الحدث، وإن أخذ بالتراجع في السنوات الأخيرة، بعد الانكسارات التي أفضت إليها أحداث الثورات العربية، هذا النموذج لا يبدو انتسابه وثيقًا لأدوات التحليل الصارم التي تبحث فيما يمكن إدراكه من نمط وبواعث الفاعلين، أي في سلوكهم، ومصالحهم، وموازين القوى بينهم، بما في ذلك إدراك الحركة الإسلامية، لتلك العوامل، ووعيها بها، ومن ثم أخطاؤها إزاءها، وإنما يمكن تلخيص ذلك النموذج، بكونه الإيمان بموقع الحركة الإسلامية المُفضّل داخل إرادة الله الغالبة!

يمكن لنا مثلاً، أن نبين هيمنة ذلك النموذج، بشعار "داعش" "باقية وتتمدد"، هنا لا يتعلق الأمر بتحليل علمي لموازين القوى وسلوك الفاعلين وإراداتهم ومصالحهم، بقدر تعلّقه بثقة غيبية في لحظة انتفاش، سرعان ما تعيد التعبير عن نفسها، في لحظات الهزيمة والتراجع والانكسار، بشعار آخر يندرج في النموذج نفسه، ليشكّل قاعدة من ضمن قواعد ذلك النموذج، وهي قواعد تعود إلى أصل واحد.

"داعش" في ذلك حالة متضخّمة في الوسط الإسلامي، لانتسابها إلى نموذج سلفيّ يستبطن تصورًا باستعادة الجماعة لنموذج السلف المتخيَّل، الذي تجسّد فيه، بحسب الإيديولوجيا السلفية عمومًا، الوحي، بفرعيه القرآن والسنة، وإذن فثمة تصوّر أصليّ بحلول الحقّ في الجماعة.
تزداد هيمنة ذلك التصوّر، مع الممارسة الجهادية العنفية، التي تمتلك مفاعيلها الخاصّة بتصليب ذلك النمط من التصوّرات، بالإضافة لاستنادها في حجاج خطابي طويل، إلى مقولة منقولة عن سفيان بن عيينة "إذا اختلف الناس فانظروا ما عليه أهل الثغور فإنّ الله تعالى قال {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}". تُحمل تلك المقولة على إطلاقها، من جهة تجسيد أهل الثغور للحقّ، والذين يُقصر تعريفهم لدى "داعش" على منتسبيها، ومن قبل انقسام التيار السلفي الجهادي، على المنتسبين إليه دون بقية المجاهدين ممن هم خارج التيار، وهكذا..

إنّ النموذج الإيماني، مهمّ من أجل تعزيز صمود المؤمن في معمعة الصراع، وتصبيره في غمرته، وليس للتغطية على إخفاقاتنا وفشلنا
لكن حضور هذا النموذج موجود لدى الإسلاميين كلّهم، مع تفاوت في مستويات هيمنته، إذ وبدلاً من تحويل الإيمان الغيبي إلى حافز يحيل إلى حتمية المكابدة في الدعوة والإصلاح والجهاد، إذ إن المكابدة بالضرورة متحصّلة في التدافع الإنساني، وفي مغالبة المستضعفين للأقوياء؛ فإنّه يحيل إلى مفهوم قريب من "نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ"، وكأن الله يدير أقداره لأجل جماعات متعيّنة لها عهد على الله، مع أنها في أصل التصور الإسلامي ينبغي أن تكون محض وسيلة تسدد وتقارب، وهي وسيلة قد تمليها ضرورة تاريخية، وقد تخرج من التاريخ بعد استنفاد أغراضها، وبحسب التعبير القرآني، هي وسيلة قد تستبدلها أقدار الله "إِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ".

الفكرة المهمّة هنا، أننا مسؤولون عن أفعالنا، وواجبنا تفسير تلك الأفعال، وتصحيحها، وأنّ الإيمان بتدبير الله، لا يعارض ذلك أبدًا، إذ ليس لنا بأعياننا، أفرادًا وجماعات تنتسب للحركية للإسلامية، عهد على الله، وإذا كانت حكمة الله التي لا يحيط بها إدراكنا، أو موازين القوى في لحظة معينة، قد تدفع بنا إلى الهزيمة، فإنّ مآلات الأنبياء الذين قتلوا من قبل، والنبي الذي يأتي وليس معه أحد يوم القيامة، وأصحاب الأخدود، نماذج للاستمرار في المكابدة، لا للاستدلال بها على غلبة القدر على تدبيرنا؛ هربًا من محاسبتنا أنفسنا، أو تزكية لتدبيرنا وحركتنا.

بمعنى أننا مطالبون دائمًا بالبحث في أين أصبنا، وأين أخطأنا، وإن كنّا قد استنفدنا وسعنا بالتدبير والقوّة أم لا، وإن كانت أسبابنا الذاتية غالبة على إخفاقنا أم أنّ توزيع القوّة بيننا وبين خصومنا هو الغالب، وإن كنّا أحسنا التعامل مع ذلك التوزيع أم لا، دون الاستناد إلى أن لنا حظوة خاصّة عند الله، من دون المسلمين، أو من دون بقية العاملين في حقلنا نفسه.

والتحليل الصارم قد يشفع لنا أحيانًا، لكنّ المهم أن يكون علميًّا، مستندًا إلى معطيات واقعية، وتمحيص دقيق لفعلنا إزاء مجمل العوامل المشكّلة للحدث، فموازين القوى كثيرًا ما تسحق خيارات الضعف مهما كانت، فالسياسة هي تجليات القوّة وطرق مناورتها، ولكن قبل الاستناد المسبق إلى حقائق القوّة التي كانت ضدّنا تمامًا، ينبغي تقديم تحليل يبين تلك الحقائق، ويبين محاولاتنا في مناورتها ومغالبتها، وإن كنّا لم نفوت الفرص، أو استنفدنا وسعنا في ذلك أم لا... الخ.

 في هذا النموذج، ثمة ثلاث قواعد تشكّله، مآلها كلّها إلى أصل واحد كما سبق وقلنا:
الأولى، إحلال الحق في الجماعة، ثم تجسيد الجماعة في القيادة، وبهذا يكون نقد القيادة نقدًا للجماعة، التي نقدها بدورها نقدًا للحقّ. نجم عن هذه القاعدة تصورات أسطورية داخل كل حركة إسلامية عن قدرات قياداتها، وعجزًا مزمنًا عن التعامل مع الأصوات الناقدة.

ينبغي أن نعتقد أن الحقّ لا يحلّ في أحد من عباد الله، وأن انتسابنا لهذا الحقّ، لا يعفينا من الخطأ، وأن حكمة الله متسامية على أهوائنا ورغباتنا
رويترز
والحقّ أنّ أيّ أحد يمكنه أن يزعم قدرات ومعرفة خاصّة لقيادته، ويحيل ذلك إلى حجاج غيبي، لا يمكن التعامل معه واقعيًّا، وهذه مصادرة على أيّ تساؤل أو نقد، ومن يجيزه لنفسه فعليه أن يتوقع أن يقابله بمثله خصومه ومخالفوه.

الثانية، يَرفض الإسلاميون، غالبًا، تعريف إخفاقاتهم، بالفشل أو الهزيمة، إذ يردّون وقائع من هذا النوع إلى القدر الذي يخبّئ حكمته عنّا، ونحن نركن إلى ذلك؛ بدلاً من البحث في مسؤولياتنا نحن التي سنُسأل عنها أمام الله، وأيضًا أمام الناس والتاريخ، ويُفترض أمام أنفسنا، وأيضًا لاعتقادنا أن مآل الأمر كله لهذا الدين، بيد أننا هنا لا نفرق كثيرًا بين الدين ونحن.

الثالثة، الأصل الذي تؤول إليه القاعدتان السابقتان "نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ"، ففي النقاش، الذي يُفترض فيه أن نستعرض المعطيات الواقعية، وندير فيه تحليلاً علميًّا يكشف عن صوابنا وخطئنا، ويكشف عن مجمل العوامل الفاعلة في الحدث، نقحم تدبير الله، وكأنّه، جلّ وعلا، يشتغل في تدبيره عند بعض من عباده، الذين هم نحن، لا العكس!

إنّ النموذج الإيماني، مهمّ من أجل تعزيز صمود المؤمن في معمعة الصراع، وتصبيره في غمرته، وليس للتغطية على إخفاقاتنا وفشلنا، وهذا النموذج، ينبغي أن نعتقد إزاءه أن الحقّ لا يحلّ في أحد من عباد الله، وأن انتسابنا لهذا الحقّ، لا يعفينا من الخطأ، وأن حكمة الله متسامية على أهوائنا ورغباتنا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق