في كل أزمة تمر، يبرز الخطاب الديني كجزء من الأزمة وليس جزءاً من الحل، وهذه ظاهرة متكررة وملموسة، حتى أصبح الناس يتنبؤون ويتوقعون ما يمكن أن تكون عليه الفتاوى و»البيانات الشرعية» قبل صدورها، والسؤال المحوري الذي يشغل بال الناس في كل أزمة، إذا كان علماء الدين ينطلقون من دين واحد، فلماذا هذا الاختلاف الحاد فيما بينهم من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال بمسافة أعمق مما هي بين السياسيين؟
إذا تجاوزنا المطبّلين للسلطان واللاهثين خلف الفتات المتساقط من موائده، وهؤلاء كُثر.. وإن كانوا يلبسون العمائم ويرتقون المنابر، فشهادة الشريعة الآن لا تشترط التقوى، كما كانت تشترطها مدارسنا الأصيلة التي خرّجت علماء السلف ومن سار على نهجهم، بل أصبحت علوم الشريعة تدرّس في تعليمنا المعاصر مثل أي علم آخر، بمعنى أنه لم يعد مستغرباً أن يحمل شهادة الشريعة من لا يؤدّي الصلاة أصلاً، ومن ثم، فليس من المستغرب وجود فئة من حملة شهادات الشريعة ممّن لا يقدّر للشريعة قدرها، وإنما يتعامل معها بالمنطق الوظيفي، وما يمليه عليه منصبه الرسمي، فهو يمثّل الحكومة أكثر من تمثيله للشريعة، لذلك، نرى هذا الانقسام في الخطاب الديني بحسب الانقسام السياسي، والمواقف المتناقضة والمتقلبة للدول والحكومات.
الأدهى من هذا، أن يفتح الباب لكل من شاء أن يجرّب حظه في منابر الدعوة والإفتاء والتوجيه الديني بلا شروط ولا ضوابط، ولا رقيب ولا حسيب، وقد حصل في بعض بلادنا أن سمحت وزارة الأوقاف للخدم والمؤذنين أن يتحولوا إلى أئمة وخطباء لسدّ النقص الوظيفي في هذا المجال، وسرعان ما ترى هؤلاء قد تقمّصوا بالفعل شخصية العلماء، وأصبحوا يلوكون عبارات الاجتهاد والإفتاء، ومثل هؤلاء أيضاً مَن دفعتهم جماعاتهم الدينية، وزجّت بهم في المجتمع بعمائم وجبب لم يكن تحتها ما يكفي من التكوين العلمي، محاولة منهم للتأثير في المجتمع دعوياً أو سياسياً، لكن هؤلاء سرعان ما يتجاوزون هذا المقصد الدعوي أو السياسي ليجدوا أنفسهم في دائرة الإفتاء ومعترك الاجتهادات والاختلافات الفقهية المعقدة.
وسائل الإعلام أيضاً ارتكبت في هذا المجال ما يندى له الجبين، وأذكر أنه دعاني أحد الأساتذة الأفاضل لأتابع معه حلقات لأحد الذين تقدمهم وسائل الإعلام كمجددين في علوم الشريعة، وكانت إحدى حلقاته عن أسلوب التحريم في القرآن الكريم ليخلص في النهاية إلى أن كلمة (اجتنبوه) تفيد الإرشاد وليس التحريم، وعليه، فإن شرب الخمر لا دليل على تحريمه.
فقال لي هذا الأستاذ -وهو برتبة بروفيسور-: «والله يا أهل الشريعة حيرتمونا!» قلت له: «كيف عرفت أن هذا من أهل الشريعة؟»، ثم أطلعته على مقولة لهذا «المجدد» أكثر شذوذاً من سابقتها، حيث يقول في أحد كتبه بالنص: «إذا شاهد والد ابنته وهي عارية فلا يقول لها: هذا حرام، ولكنه يقول لها: هذا عيب»، ويؤكّد: «فإذا تحرّجوا من ذلك، فهو من باب الحياء والعرف، وليس من باب الحرام والحلال».
إن كل هؤلاء لم يكن لهم أن يشكلوا تأثيراً جاداً لو لا حالة الضعف العام في مستوى الوعي، والارتباك الشديد عند علماء الشريعة أنفسهم.;
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق