مقر اليونسكو في باريس
وائل قنديل
شاء القدر أن تأتي فضيحة البعثة المصرية في انتخابات اليونسكو، مع مرور عام بالتمام والكمال على دراما"سائق التوك توك" التي أثارت بكاء المصريين الحقيقيين، على ما وصلت إليه مصر من مهانة حضارية وسياسية على يد نظام ابتذلها وهوى بها إلى قاع سحيق.
في الثالث عشر من أكتوبر/ تشرين أول كان سائق التوكتوك ينتحب على شاشة التلفزيون، متسائلاً في لوعة "هي دي مصر؟". كان الرجل صادقاً على نحو لامس مشاعر كل محبٍّ لهذا البلد، وأثار أسى كل عارف بقدره.
سجلت وقتها أنه "ربما يفسّر هذا حالة الشجن التي اجتاحت عموم المصريين، وهم يشاهدون فيديو "سائق التوك توك" الذي يذكّرهم بشيء غيّبه عبد الفتاح السيسي، وأسقطه من حساباته، اسمه الكرامة الوطنية والإنسانية، معتمداً أسلوب مد اليد وتصعير الخد لمن يمنح، متقافزاً كالقرود خلف القروض، حتى إذا توقفت المنح، أو تباطأت، تحوّل إلى كائنٍ آخر، ينقلب على ذاته، وينسف قديمه، ويجترّ عباراتٍ مثيرة للسخرية عن الاستقلالية والكرامة والسيادة".
الفرق بين مصر الأصلية ومصر الممسوخة هو ذلك الفرق الرهيب بين من بكى على تقزيم أمة كبيرة ومن هتف بحياة فرنسا في اليونسكو، وترحم على بونابارت، المستعمر، في التلفزيون.
السؤال الأهم هنا: هل توجد فروق جوهرية بين عبد الفتاح السيسي وذلك "المواطن الشريف" الذي وقف يهتف بحياة فرنسا وموت قطر في انتخابات اليونسكو؟ دعنا نقارن بين عدة مشاهد:
المشهد الأول ، قبل أربع سنوات، السيسي مثل مطربٍ بائس ، يجمع النقوط و"يحيي السعودية والأمم العربية"، ويجلس بين يدي المذيعين، لميس الحديدي وإبراهيم عيسى، مقدّما الشكر والتقدير والاحترام والولاء "لجلالة الملك عبد الله كبير العرب ورجل العرب وحكيم العرب". كان يقولها مبتهجا بسيل الأموال المنهمر، والذي هو "ليس 12 ولا 15 ولا 20 مليار دولار يا أستاذة لميس، أكثر من كده بكتير".
المشهد الثاني: سامح شكري، وزير خارجية السيسي، يقف، مثل هتِّيف محترف، في مؤتمر لوزراء خارجية دول الخليج، بعد فرض الحصار على قطر، ويقدم فنوناً من الكيد والغيظ، لا تبتعد كثيراً عما قدمه أولئك "المواطنون الشرفاء" الذين حاصروا نقابة الصحافيين، بالأعلام السعودية، وهتفوا، واعتدوا على الزملاء المعتصمين ضد بيع جزيرتي تيران وصنافير.
قبل أن تحسم الأمور لصالح مرشحة فرنسا، بأصوات التآمر العربي، كانت الخارجية المصرية ترى في العملية الانتخابية "خروقات وانتهاكات جسيمة تستوجب التحقيق"، وحين فازت الفرنسية صارت الانتخابات نزيهة وشفافة وبيضاء من غير سوء، مع إعلان رسمي من الجانب المصري بأن القاهرة ستحشد كل جهدها لكي تفوز الباريسية على القطري.
بالضبط، هذا هو مضمون ما صاح به مواطن الخارجية الشريف، بعد إعلان النتيجة النهائية. لا فرق هنا سوى أن سامح شكري أعلنها عبر بيان مكتوب على موقع الوزارة، فيما أعلنها الأول بالصياح المبتذل. والمضمون ذاته تجده في تصريحات من يعرف برئيس حملة دعم مشيرة خطاب، وهو وزير سابق للخارجية، السفير محمد العرابي، في تصريحات عديدة طوال مراحل التصويت.
والواقع أن ذلك الذي ظهر في لقطات تذكارية مع وزير الخارجية، والبعثة الرسمية المصرية، هو التجسيد الأمثل للسياسة الخارجية لنظام السيسي، كما أنه معبر عن نموذج "المثقف السيسي" الذي يفعل الأشياء ذاتها، ويؤدي المهام نفسها، وإن كانت الأساليب مختلفة، فهناك من يقدّم هذه الخدمة بأناقة وهندام وسمْت العالِم والفقيه والداعية والأديب المشهور، ومنهم من يقدّمها على طريقة عمرو أديب وأحمد موسى، ومن قبلهما رائد هذا المجال توفيق عكاشة.
مدينون نحن بالاعتذار لكل من طالتهم سخائم هذه المرحلة المخجلة، ومدينون أيضاً باعتذار إلى مصر، لأننا تركنا السفهاء ينحدرون بها إلى هذا الحد، ويفترسون وعي مواطنيها بأشرس أنواع الصور المزيفة، والحواديت الملفقة، والإنجازات العالمية الوهمية، من نوعية الأخبار المنشورة عن اختيار شعبان عبد الرحيم سفيراً للنيات الحسنة من المركز الدولي لحقوق الإنسان، وحين تسأل عن هذا المركز تكتشف أنه غرفة وصالة في أحد أزقة الاسكندرية أو القاهرة.
مرة أخرى، ما تراها في هذه اللحظة البائسة ليست مصر الحقيقية، بل نسخة مزيفة منعدمة القيمة، منخفضة القدر، لا علاقة لها من بعيد أو قريب بما يعرفه العارفون عنها، ويحفظونه
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق