في الذكرى المئوية لتصريح بلفور ومستقبل فلسطين
السفير د.عبد الله الأشعل
في الثاني من تشرين الثاني/ نوفمبر 1917، ألقى اللورد بلفور وزير الخارجبة البريطاني بيان الحكومة البريطانية أمام مجلس النواب؛ أعرب فيه عن تفهم الحكومة البريطانية لحق اليهود في وطن قومي في فلسطين.
وبالطبع، فإن هذا التصريح الذي صدر قرب نهاية الحرب العالمية الأولى، قد أحاطته ظروف تتعلق بمساندة الأثرياء اليهود، وخاصة أسرة روتشلد لبريطانيا وحاجتها إلى المال بعد ثلاث سنوات من الحرب الطاحنة في أوروبا.
ولكن هذا التصريح، كما ظهر فيما بعد، كان حلقة في سلسلة من الخطوات التي شكلت المشروع الصهيوني، منذ أن تبلور خلال المؤتمر الصهيوني الأول في مدينة بازل السويسرية في آب/ أغسطس 1897.
نناقش في هذه المقالة موقع التصريح في محطات المشروع الصهيوني، والمضمون القانوني والسياسي له، والآثار التي ترتبت عليه، ومدى مسؤولية بريطانيا عن إقامة إسرائيل باعتبارها التجسيد الأول للمشروع، وهبوطه من عالم التخطيط والخيال إلى عالم الواقع.
وإذا كانت الأدبيات العربية قد اعتبرت التصريح وعدا ممن لا يملك لمن لا يستحق، فإن هذه الإدانة لا تنال من موقع التصريح في المخطط الصهيوني.
فالمحطة الثانية بعد بازل والمؤتمرات التالية وكتاب الدولة اليهودية؛ هو التصور الذي وضعه الدبلوماسي البريطاني سايكس مع الدبلوماسي الفرنسي بيكو في اتفاق سري في 19 أيار/ مايو 1916؛ كشفت النقاب عنه الثورة البلشفية في روسيا في العام التالي.
وفي العام الماضي، حلت مئوية سايكس بيكو في وقت شهد العالم العربي موجة قاسية من التفتيت الديني والعرقي والقومي والوطني وتقويض ممنهج لمفهوم العروبة والإسلام، بمشاركة بعض العرب والمسلمين. لذلك كان الاتفاق الفرنسي البريطاني استباقا لتفكك الامبراطورية العثمانية وتوزيع مبكر لتركتها التي انتهت بهزيمتها ضمن دول الوسط، حيث انتهت الامبراطورية والخلافة وقامت تركيا الحديثة عام 1924 بغير ممتلكات أجنبية.
أما المحطة الثالثة، فكان تصريح بلفور الذي كان يعني في الواقع قيام بريطانيا بالدور الأساسي في تهيئة فلسطين لإقامة إسرائيل، وتشجيع الهجرة اليهودية وحمايتها، وتكشف صفحات التاريخ المعاصر عن أدوار جدلية لبعض الزعماء العرب في صفقة الهجرة اليهودية وقيام إسرائيل.
أما المحطة الرابعة التي تأسست على ما سبق؛ فهي الإقرار في اتفاقية فرساي بنظام الانتداب في عهد عصبة الأمم؛ التي يفترض أنها نشأت لإدارة العلاقات الدولية بعد أول حرب عالمية طالت العالم كله.
وقد هلل الدارسون للمنظمات الدولية والقانون الدولي لفكرة الانتداب، واعتبروه حلا متحضرا للاستعمار الغربي، وهو في الواقع صورة متطورة للتبعية والتحكم في المنطقة العربية، وأضفى شرعية جوفاء على دور بريطانيا في فلسطين.
وقد أثار الرئيس الفلسطيني عام 2016 مسألة جدلية حول مقاضاة بريطانيا بسبب تصريح بلفور ومسؤولية بريطانيا عن إقامة إسرائيل، وهذه مسألة تحتاج إلى دراسة؛ لأنها تفتح الباب أمام جميع السياسات الاستعمارية البريطانية وغيرها والتعويض عنها أو الاعتذار. وحتى لو كانت هذه المسألة قابلة للتقاضي، فإن السياسة البريطانية قد أسهمت بشكل واضح في إنشاء إسرائيل وتمدد المشروع الصهيوني، وهذا خطأ أخلاقي لا يجوز لرئيسة الوزراء أن تفخر بدور بريطانيا في إنشاء إسرائيل وسوف تظل إسرائيل نبتا غريبا، خاصة أن طبيعة المشروع تقضى بالانفراد بكل فلسطين والهيمنة على المنطقة العربية، والأولى أن يطالب الرئيس الفلسطيني بمؤتمر دولي تحدد فيه إسرائيل ما تريد في فلسطين ومدى إسهامها في دمار المنطقة.
أما الآثار المترتبة على التصريح باعتباره حلقة من حلقات المشروع، فهي ظاهرة في قيام إسرائيل ودعم سياساتها ومشروعها، وإخضاع المنطقة للغرب من خلالها، واعتبارها الوكيل الحصري للأطماع الغربية، ولكن بمساعدة عربية.
وأخيرا، فمن الضروري أن تعرف الأجيال العربية الكثير عن هذا التصريح، وألا نمل من تكرار هذا الموضوع حتى لا يسقط من الذاكرة العربية، خاصة أن بريطانيا تفخر بدورها. فيجب على العالم العربي أن يستعيد نخوته وتماسكه، وأن ينبذ المتصهينين في صفوفه، وأن يتذكر هذه المناسبة لكي تعيد له العزم على رفض مخطط استكمال المشروع فيما يعرف بصفقة القرن.
وكان صديقنا الدكتور جورج جبور، القومي السوري، قد اقترح منذ سنوات تشكيل لجنة في الجامعة العربية لتذكير العرب والعالم بمئوية هذا التصريح، ولم يدرك أن الجامعة العربية في هذه المئوية تلفظ أنفاسها العربية وتعلن عن وفاة العرب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق