السيارة على طريق العلمانية السريع
أحمد عمر
سادت حالة من البهجة الغامرة في العالم، بصدور القرار الملكي السعودي السامي، الذي "انتصر" لقيادة حواء للسيارة، وكنت أظن أن الملك سيدّخر القرار لابنه محمد ولي العهد، لمنحه جرعةً زائدة من الهيبة والشرعية، لكنه اتخذه بنفسه استئثاراً بالمجد، أو تجنيباً لابنه عقابيل القرار، أو لأن السعودية تعجل الخطى والعجلات إلى العلمانية، وتسوق فوق حدود السرعة.
سأتذكر للقارئ قصة روسية، عالمية، توافق الحال من أجل الاعتبار، فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ.
القصة هي قصة “المغفلة" لتشيخوف، وتروي حكاية خادمة، اسمها يوليا، تطلب بعد شهرين وخمسة أيام أجرها، وليس بعد شهر كما تقضي الأعراف، فيكيد لها رب البيت كيدا، ويغتصب حقوقها المالية، فتفاجئ بالغرامات والديون المفتراة، إلى أن يختصر لها أجرها بعد حسم وتطفيف، إلى عُشرهِ تقريباً، فتسكت وتقبض المبلغ وتشكره، فيغضب غضباً شديداً، ويخبرها أنه كان يمازحها، ويطلب منها الصفح عن قسوة الدرس، ويعاتبها على سكوتها عن الظلم والنصب، فتقول: إنها في بيوت أخرى، بُخست أجرها كله!
وفي النسخة المصرية المقتبسة سينمائياً عن القصة، والظلم الفرعوني أشد من القيصري، فإن "البيه" يراود الخادمة عن نفسها.
العالم المسرور بقرار السيارة فعل شيئاً مثل هذا مع يوليا، فشكر جلالة الملك على رخصة قيادة السيارة التي ستمنح بعد تسعة أشهر، وهو حقها. طارت التهنئة من القطب الشمالي إلى القطب الجنوبي، ولم نرَ فضائية أو وسيلة سمعية تقوم بعمل استفتاء بين النساء، بما فيها العربية وسكاي نيوز، اللتين احتفتا بالقرار أكثر من احتفائهما بعاصفة حزم، ستنال المرأة في نجد والحجاز بعضاً من حقوقها، وبشروط قاسية، ومن غير اعتذار عن سنوات استعمار الذَكر المحلي. الصحف السعودية كلها، اختارت تعبيراً حربياً للقرار: الملك سلمان ينتصر للمرأة السعودية على قيادة السيارة...!
لم يكن مزاحا، ولا درساً.
أما في السعودية، فيبدو أن رجالها وفرسانها وشيوخها غاضبون ومتضجرون من القرار السامي، فقد فقدوا ميدان فروسيتهم الوحيد، وستنافسهم المرأة، ويقال إن الفضل في القرار هو للإسكندر الإماراتي، وذُكر أن الفضل فيه لترامب، وقد وردتني عشرات الطرائف الصوتية من سعوديين يبدون سعادتهم بالقرار الذي سيأتي بآخرة النساء.
كلها تقول: خلِ الحديد يأكلهن! وأحياناً تكون الطرائف شامتة، وتحضّ على القتل: بالليل عطل المكابح، وخليها تروح للآخرة، وجدّد فراشك بعروس جديدة.
العلاقة بين الذكر والأنثى في السعودية غير سويّة، طبقية، فيها شوق في الليل، وعداء في النهار، تشوبها غيرة وتتلوها إغارة، القرار المتأخر هو لإشعال حرب أهلية بين الرجل والمرأة!
نسي الناس أخبار القصف ومقاتل السوريين والروهينغا، ولم اسمع أحداً ذا شأن، يقول إن القرار الملكي مؤامرة على السوريين أو على الروهينغا، أو أن الأسد منح المرأة حقها، وجعلها رئيسة للبرلمان، أو أن السيسي حجز ستين مقعداً في البرلمان المصري للمرأة، والسيسي كان يتاجر بالمقاعد إعلامياً في الغرب، سمعنا فرعون مصر يقول لمذيع أمريكي متوسلاً كعادته، بما لا يليق بالفرعون: ما تدونا الأباتشي.
كما أصدر الملك السعودي الذي انتصر للمرأة من الدين، أو من رجال الدين، ملحقاً بالقرار الملكي السامي، والسامي صفة ليست من عندي. يجرِّم كل من يسخر من القرار السامي، بعقوبتين مالية وبدنية، كأن القرار يستبطن استحقاقه للسخرية، إما لأنه قرار يجافي الثقافة البدوية التي حاربت قيادة المرأة للسيارة بسلاح العرف والدين، وإما لأنه جاء بالصدمة من غير تمهيد.
استند المنع الذي قارب التحريم إلى آراء عجيبة، أهم الذرائع هي درء الفتنة، ومنها قول الشيخ اللحيدان بنظرية حوض المرأة والارتداد، والنظرية تحصر حرص الرجل السعودي على حوض المرأة، وهو لا يقع إلا مع المقود، وكأن الراكبة في المقعد الخلفي أو الجانبي، مأمونة الحوض، ضد الارتداد.
ولن يجادل القارئ في أن حوض المرأة، وهي على ظهور الرواحل قديماً، كانت أكثر ارتداداً.
الزمن يجري بسرعة، والسعودي يحب السرعة في قيادة السيارة.
ذكرنا سابقاً بأن السرعة علامةٌ علمانية، لكن السعودي كان بطيئاً في مواكبة العالم، والسعودية هي الأعلى في العالم في حوادث السير، من غير خمر، وهو سبب مهم في الحوادث.
يقول الغذامي في كتابه “حكاية الحداثة": إنه لا يوجد عربي ولا مسلم إلا ويحبُّ أن يرى السعودية محافظة على جوهرها، وهذا ما أشك فيه.
وفي مذكرات الطبيب البريطاني "أسرار وراء الحجاب"، لسيمور جراي، تعجبٌ من حب السعوديين لقيادة السيارة بسرعة، ويعدونها بطولة، ويمكن القول إن كوبا وكوريا الشمالية والسعودية، ثلاث دول محفوظة في حموض حافظة؛ كوبا في حمض الشيوعية، وكوريا في حمض الدكتاتورية الصافي، والسعودية في حمض التقاليد.
القرار جعل المفتي وهيئة كبار العلماء مهرجين، وأمس قطع التلفزيون البث عن الشيخ صالح الفوزان، وجعله يتكلم من غير صوت، ثم بثَّ صوراً للتراث، وكان هذا حال السلطان مع الشيوخ في مصر وسوريا، ثم لحقت بهما السعودية على الأثر.
وقد فوجئت بالشيخ عائض القرني يخطب ويقول في التباهي بالسعودية، وقد نهي المسلم عن الفخر: نحن أخرجنا محمدا... ثم رأى أنه قد جاوز حدَّه، ومثله لا يغيب عنه مثل هذا التجاوز، فقال: ومنّا محمد عليه الصلاة والسلام.. وهي عبارة تناقض أدب المسلم مع نبيّه، فكيف بالدعاة! ومثل ذلك، مقال لإمام الحرم السابق عادل الكلباني، في جريدة الرياض، الذي قال في العنوان: إني من المطبلين! فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ.
وتكتظ صفحات التواصل الاجتماعي والسياسي بطرائف المفتيين في مصر وسوريا، ويمكن عمل موسوعة للفتاوى المضحكة مثل موسوعة غينس، أما السديس فشطح شطحة بعيدة، وكان قد اتبع دورة منهجية في مخاطبة الغرب، وقال: إن سلمان وترامب يقودان العالم نحو مرافئ السلام، والناس تعرف أن أمريكا تخوض عدة حروب، كلها على المسلمين في أفغانستان والعراق وسوريا والصومال، والسعودية تخوض حرباً خاسرة في اليمن وحصاراً على قطر، وقد انتصرت أخيراً في معركة السيارة، والمعركة لم تبدأ بعد!
عيد الحب على الأبواب، وتوماس فريدمان صاحب دعاء مستجاب في السعودية، ولا يحتاج إلى رفع يديه للسماء، وكان قد عاب على المملكة عدم الاحتفال بهذا العيد، ومثل عيد الحب، الكوليرا متربصة على الحدود، فاليمن فيها مليون مصاب بالكوليرا، و20 مليون مقبلون على مجاعة، وكان شعب الروهينغا يتطلع إلى نجدة السعودية، عاصمة القرار الإسلامي، وقد جاء الفرج أخيراً ومتأخراً في الانتصار للمرأة على الحديد.
هناك تأويلات كثيرة لفرمان السيارة، ثانيها هو؛ إعلان الحرب الأهلية كما أسفلنا القول وثالثها؛ تشتيت اللعب عن المرمى بقذف الكرة خارج الملعب، وأولها إن المرأة أداة في هذه الحروب، وليست جنديا كما ينبغي لها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق