الجمعة، 1 أغسطس 2025

جريمة خليل الحيّة ونصوص نيويورك المقدّسة

 جريمة خليل الحيّة ونصوص نيويورك المقدّسة

وائل قنديل


ما هي الجريمة التي ارتكبها رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، خليل الحيّة، حتى يتحوّل في نظر إعلام سفيه ومنحطّ إلى عدوّ حاقد على مصر ومصدر تهديد لأمنها القومي؟ 

ما هو وجه الإجرام في زفرة ألم مصحوبة بعتاب هادئ خرجت من شقيق يتساقط أهله موتاً بالجوع والعطش والقتل اليومي، فراح يستصرخ أكثر أشقائه قربى بالمصير والجوار والهُويَّة والنسيج الاجتماعي؟

 ما هي الجناية في المناداة على الشقيقة الكبرى أن تفعل شيئاً لحماية أصغر شقيقاتها وأكثرهن احتياجاً للغوث من الهلاك؟

أحسب أن النداء على مصر، بشكل خاص، دون غيرها، ينبغي أن يُفهم في إطار الإكبار والعرفان والاعتراف بمكانتها وأهميتها، في لحظة تصل فيها حرب الإبادة الصهيونية للشعب الفلسطيني إلى أكثر مراحلها إجراماً ووحشيةً، إذ تتحوّل ما تسمّى "مساعدات إنسانية" مصائدِ للموت وكمائنَ للقتل الجماعي. 
وبالتالي كان المتصوّر منطقاً أن يكون هذا النداء ممّا يُشعر المصريين بالقيمة والحجم، وليس بالخطر والخوف على وطنٍ كبيرٍ من استغاثة جريح يكاد يلفظ أنفاسه الأخيرة.
هل أخطأ خليل الحيّة حين توجّه إلى مصر، شعباً وجيشاً وحكماً باعتبارها الملاذ والحصن الأخير للشعب الفلسطيني، حتى تنهال عليه هذه الشتائم والسخائم كلّها، تعيّره بأنه خارج غزّة يعيش ويدير العملية السياسية من الدوحة، حيث منها يستطيع الحركة وتلبية دعوات الوسيط المصري للحضور إلى القاهرة للمشاركة في جلسات تفاوض يحرص الوسطاء على انعقادها واستمرارها، حتى صارت غاية في ذاتها، وليست مجرّد وسيلة؟
يُلام الرجل على أنه لا يزال حيّاً يرزق بعد أن استشهد نحو 20 من أبنائه وأحفاده وأشقائه في معركة الصمود الفلسطيني، فهل صارت النظرة إلى الأمور في مصر تتطابق مع مثيلتها في الكيان الصهيوني، لتصبح قاعدة "الفلسطيني الجيّد هو الفلسطيني الميت" القاسم المشترك بين إعلام بذيء هنا وسياسة نازية هناك؟

تخيّل لو أن الحيّة كان قد توجّه بندائه إلى حكومات وشعوب عربية أخرى طالباً النجدة، مسقطاً مصر من حساباته، ماذا كان يمكن أن يكون موقف مضخّات البذاءة من الرجل؟ 
أغلب الظنّ أنه كان سيُتّهم بالجحود ونكران الجميل والإساءة إلى الدولة المصرية بتجاهل دورها ومكانتها، وربّما وجدّتَ من يطالب بمنعه من دخول مصر ووضعه في قوائم الإرهاب.
السؤال الأهم في هذه المسألة: 
هل تجد فرقاً كبيراً بين نداء خليل الحيّة وبيان شيخ الأزهر المحذوف قسراً، بعد ساعات من صدوره، محمّلاً بعبارات غير مسبوقة من الانتقاد لمواقف الدول العربية والإسلامية التي لا ترقى لمستوى الكارثة الإنسانية والحضارية في غزّة؟ 
 
الشاهد أن نداء الحيّة على الأمّة، ومن قبله صرخة أبو عبيدة الناطق باسم المقاومة الفلسطينية، على الأمّة شعوباً وحكاماً، قد استبقا تلك اللحظة التاريخية البائسة التي وقعت فيها دول عربية وإسلامية على وثيقة صادرة عما اشتهر باسم "مؤتمر حلّ الدولتين" في نيويورك، تنظر إلى المقاومة الفلسطينية باعتبارها عملاً مجرماً، وإلى امتلاكها السلاح بوصفه جريمةً، وإلى استخدام هذا السلاح في عملية بطولية في 7 أكتوبر (2023) جريمةً تستوجب الإدانة، ثمّ تطلب من المقاومة، تلك المقاومة التي نهضت في أرض غزّة نباتاً أصلياً فلسطيني الخصائص والملامح، ولم تهبط عليها من الفضاء أو تستورد من الخارج، أن تسلّم سلاحها وتترك غزّة لسلطة فلسطينية يرضى عنها نتنياهو، ويريدها، فتصبح غزّة نسخةً من رام الله، لا تقاوم ولا تساعد على المقاومة، وتتعيّش على الفتات المتساقط من مائدة التنسيق الأمني مع العدو ضدّ من يفكّر في مقاومته.

هذه الوثيقة التي لا تكتفي بالمساواة بين الشقيق والعدو فتذهب إلى منح العدو أكثر ممّا يحلم به من مطالب في غزّة، أغلب الظنّ أن نتنياهو لو عكف على صياغتها بنفسه لما توصّل إلى نصّ بهذا السفور في مناصبة المقاومة، فكرة ومبدأ ومشروعاً، العداء بالنحو الذي يضع قضية الشعب الفلسطيني في لحظة أشدّ سواداً من كلّ لحظات التفريط بفلسطين، من نكبة 1948 إلى كامب ديفيد الأولى، ثمّ "أوسلو" بجزئيها، وصولاً إلى كامب ديفيد الثانية وصفقة ترامب وشرق أوسطه الإسرائيلي الكبير.

أكثر ما يلفت النظر بشأن هذه الوثيقة أن الفضائيات العربية، التي تمدّ موائد التحليل العميق إذا عطس جندي صهيوني في غزّة، أو ابتسم وزير من وزراء العدو في لقطة، لم تقترب من بنود هذه الوثيقة بالنقاش والتحليل بين معارضين لها ومتفقين معها، وكأنّها نصوص مقدّسة نزلت من السماء من يجادل فيها فقد صبأ، على الرغم من أنها ومثلها ألف وثيقة لا تستطيع أن تستأصل من الإنسان الفلسطيني حلمه المشروع بالتحرير، وحقّه الأصيل في المقاومة.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق