هل مخترع التكييف يدخِل الجنة؟!
ردًا على «حمدي رزق»
بقلم د. محمود القاعود
31 يوليو 2025
ما أشبه بعض المقالات الساخرة بـ«المراوح الصدئة»، تُصدر ضجيجًا ولا تُحرّك هواء، تطنّ حول الأذهان طنينًا يخال المرء معه أنه أمام رؤية فلسفية أو موقف إنساني، بينما هي في جوهرها تسطيح للحقائق وسخرية من ثوابت، وإمعان في خلط المفاهيم.
والمقال الذي كتبه حمدي رزق بعنوان «هل يدخل الخواجة كارير الجنة؟!» ونُشِر في صحيفة «المصري اليوم» يوم 30 يوليو 2025م، مثالٌ فجّ على هذا اللون من الكتابة الذي يسخر من الإسلام، ويتذاكى على أحكام العقيدة بأسلوب يخلط السخرية بالجهل، ويُقدّم المدنية على الإيمان، ويقيس مصائر الآخرة بعدّادات الكهرباء والتكييفات، وكأنّ الجنة مرفق خدمات عامة لا مآل أبدية تُبنى على الإيمان والعمل الصالح وعبادة الله الواحد القهار.
الإيمان لا يُقاس ببراءة الاختراع
ابتداءً، لا يختلف اثنان على أن المخترع الأمريكي ويليس كارير قد خدم البشرية باختراعه لنظام التكييف، شأنه في ذلك شأن نيوتن في الجاذبية، ولويس باستور في الأحياء، وفاراداي في الكيمياء.. وهذه إسهامات يشكر عليها الإنسان، وتُقدَّر في ميزان الحضارة، لكنها لا تساوي شيئًا في ميزان الآخرة إن لم يكن معها إيمان بالله ورسله، قال الله تعالى: (وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا) (الفرقان: 23).
وهذه ليست قسوة إلهية -كما يحلو للبعض أن يصوّر- بل عدالة مطلقة؛ إذ مَن لم يُؤمن بالله، فكيف يرجو ثوابه؟ ومن لم يسجد لخالقه، فكيف يطلب جنته؟ هل يعقل أن يُكافأ من أنكر وجود الله عزَّ وجل أو استكبر عن عبادته، بمقام الخلود الأبدي في جنة عرضها السماوات والأرض؟
من قال: إن السلفيين يكرهون التكييف؟
ورد في المقال تعريض ساخر بالسلفيين بأنهم «يتكيّفون في التكييف» ويكرهون الخواجة كارير! وهذه مغالطة مزدوجة.
أولًا: الإسلام لا يُعادي العلم ولا الصناعات، بل أول آية نزلت من كتاب الله كانت: (اقْرَأْ) (العلق: 1).
والقرآن الكريم مملوء بالإشارات الكونية والعلمية التي دعت الإنسان للتأمل والاكتشاف.
ثانيًا: السلفيون -كغيرهم- يستخدمون التكييف والإنترنت والطائرات، لكنهم يفرّقون بين الانتفاع المادي والانبهار الثقافي؛ فهم لا يعبدون المدنية الغربية، ولا يسوّغون بأجهزتها ما فيها من انحلال عقدي وأخلاقي.
هل إذا استخدمت مصباح أديسون، وجب عليّ أن أؤمن بديانته؟! وهل إذا ركبت طائرة بوينج وجب عليَّ أن أتبنى فلسفة الغرب في الإلحاد والزواج بين قوم لوط؟!
استعمال منجزات الأمم لا يعني التسليم لأفكارهم، وقد استخدم الصحابة رضوان الله عليهم سيوف الروم والفرس ولم يعبدوا آلهتهم.
معيار الجنة ليس «الخدمة المدنية»
الجنة ليست جائزة «نوبل»، ولا تذكرة حضور في مؤتمر علمي، الجنة وعد الله تعالى لعباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات، الإيمان بالله واليوم الآخر شرط لازم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلتُ به، إلا كان من أصحاب النار» (صحيح مسلم).
فهل نخالف كلام سيد الكائنات صلى الله عليه وسلم إرضاءً لمشاعرنا تجاه مخترع مكيف؟
عَدل الله أوسع من خيالنا
ربما يعترض البعض: «ولكن كارير لم تصله دعوة الإسلام، أو لم يسمع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم!» وهذا اعتراض منطقي.
والجواب: أن الله سبحانه وتعالى عادل لا يظلم أحدًا، فقد بيَّن في القرآن الكريم أن من لم تبلغه الرسالة تقوم عليه الحجة بما أعطاه الله من عقل وفطرة،
قال الله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) (الإسراء: 15).
وقد بيَّن العلماء أن من لم تبلغه الدعوة يُمتحَن يوم القيامة امتحانًا خاصًا، فلا يُعذَّب إلا بعد قيام الحجة عليه.
إذن، فكارير في علم الله عزّ وجل، لا في علمنا، ولسنا نحن من يُقرر له الجنة أو النار، لكننا نُقرر أصلًا شرعيًّا: أن الإيمان شرط لازم لدخول الجنة.
فقه النِّعم وأدب الشكر
من التناقض البين أن نتمتع بنعمة (كالمكيف)، ثم نجعلها مدخلًا للتهكُّم على الإسلام الذي أباح لنا الانتفاع بثمرات العلم وعمارة الكون.
إن من تمام الشكر أن تقول: «الحمد لله الذي سخّر لنا ما في السماوات وما في الأرض»، لا أن تسخر من أهل التديّن أو من نصوص الإسلام.
نعم.. نُقدّر كارير، ونحترم إبداعه، لكن لا نقدّمه على الأنبياء، ولا نجعل اختراعه بوابة لاحتقار المسلمين وأهل الإيمان.
أما من يتهكّم على الإسلام باسم المكيف؛ فقد جهل الإسلام والمكيف معًا.
لن نُدخل الخواجة كارير النار، ولن نُدخله الجنة، هذا شأنٌ إلهي، لكن الجنة جزاءٌ إلهيّ على معرفة الخالق سبحانه وتعالى وتوحيده والإيمان برسله وعبادته.
الحذر واجب من الاستهانة بالإسلام من أجل مكيف، أو بيع الآخرة بنسمة باردة، فرُب مكيف أنقذ جسدك من حر الدنيا، ولكن لن يُنقذك من حرّ جهنم إن لم يكن في قلبك إيمان؛ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا) (النساء: 56).
اللهم متّعنا بنعمك، واهدنا لشكرها، ولا تجعلنا من الساخرين بشريعتك، ولا من الغافلين عن آخرتك.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق