د. أحمد بن راشد بن سعيّد
سهم بن كنانة، مؤرخ ومؤلف سيبزغ اسمه بعد نحو قرن من الزمان.
فيما يلي مقتطفات من كتاب له بعنوان «الفصل المنسي، من قصة الانقلاب على مرسي»، سيصدر في عام 1534 للهجرة، 2110 للميلاد.
قال سهم بن كنانة:
حصل في عام 1433 للهجرة أن أهل مصر اقترعوا على حاكم لبلادهم، ففاز بثقتهم رجل حافظ للقرآن، مشهود له بالأمانة، يقال له محمد مرسي.
لكن لأمر ما لم يقع ذلك موقعاً حسناً من أقوام داخل مصر وخارجها، فنالوا منه نيلاً، ورموه عن قوس واحدة.
وقال قائلهم: يا ليتني كنت عظاما، قبل أن يصبح مرسي إماما
وقال آخر: لأن أصعد شاهقاً، فأتردى، فينكسر رأسي، خير من أن يتم الأمر لمرسي
وقال شاعر عُرف بالعربدة والمجون:
كيف يعلو على المنابرِ مرسي..
ويسوسُ الورى بأحكامِ نحس..
إنه الشؤمُ، ويحكم، في بلادي..
كيف يغدو على ثراها ويمسي..
سلموا الأمرَ يا جنودُ لوحشٍ..
مستبدٍّ.. من غير قلبٍ وحسِّ..
سلموها اليهودَ والرومَ حتى..
ينقذوها أو سلموها لفرسِ..
احذروا مسلماً يؤدي صلاة..
واجعلوا الأمرَ بين حَبْرٍ وقسِّ
قال سهم بن كنانة: وكان الأمر أشبه بالشورى، فليس لكاره لمرسي أن يطلب عزله حتى يكمل ولايته، ويؤدي ما عليه، غير أن حملة القوم عليه كانت ضارية، فزعم أحدهم أن الإخوان المسلمين (وهي الجماعة التي ينتسب إليها مرسي) شر مطلق، وأن إبعادها عن حكم مصر أولى من تحرير فلسطين من يهود، وتحرير الشام من الباطنيين الكفار
وأنشد شاعر منهم:
سلامٌ على مصرٍ إذ اغتال طهرَها..
رجالٌ من الإخوان قد نكثوا العهدا
ألا من بني علمانَ شهمٌ محنكٌ..
يمزقُ بالدبابةِ الأوجهَ الرُّبدا..
إذا رضخت مصرٌ لأذناب مرشدٍ..
فقد فقدت نورَ الهدايةِ والرُّشدا
سيعلنها مرسيُّ حكمَ خلافةٍ..
بها الحرُّ يغدو من حقارته عبدا
قال سهم بن كنانة: وكان جدي يعجب من كراهية القوم للإخوان ومرسي، واتهامهم لهم بالتعاون مع فارس ويهود، وكانوا من قبل يتقربون إلى مبارك عامل يهود، ويمدونه بالغي ثم لا يقصرون. وكانوا يشتمون مرسي في رقاع لهم يسمونها جرائد، ويحرّضون على الخروج عليه.
وأخبرني جدي عن أعرابي بلغه فوز مرسي، فشرق بريقه، وكاد أن يهلك، وهو يهمهم: لا نجوتُ إن نجا، فلما سقوه الماء، وسكت عنه الغضب، أقسم ألا يهدأ له بال، ولا تسكن له جارحة، ولا يلامس النساء، حتى يسقط مرسي، ونذر أن يعتق جواريه وخصيانه إن سقط.
قال سهم بن كنانة: وعبثاً حاول مرسي طمأنة سلاطين العرب، وكانوا أسوأ من ملوك الطوائف في الأندلس، على صدق نيته، وحرصه على أمنهم واستقرارهم، فأنكروه، وكالوا له التهم كيلا، ونبزوه بالألقاب صبحاً وليلا، فقالوا: تشيّع وتفرسن، وتحزّب وتأخون.
واستضاف مرسي مؤتمراً لنصرة عرب الأحواز من أهل السنّة الذين كانت فارس تسومهم سوء العذاب، وصدع فيه وزيره، عماد عبد الغفور، بنصرتهم، فما ازداد القوم عليه إلا حقداً، ثم صدع بتأييد أهل الشام، وكان الباطنيون وقتها يقتلونهم قتل عاد وإرم، وأذن للراغبين في الجهاد بنصرتهم، فأرعب ذلك القوم، وأضمروا له الشر، وربما كانت تلك القشة التي قصمت ظهر البعير.
قال سهم بن كنانة: وتواطأ أقوام على إسقاط مرسي، فأغروا الدهماء والرعاع من أهل مصر بالمال، وزينوا لهم الخروج في الميادين، وإحراق بيوت الإخوان، والاعتداء على الناس، وقطع الطرق والجسور، ونشر الفوضى، وأجروا لكل صعلوك من هؤلاء رزقاً، ولما حاول مرسي تثبيت الأمن، والأخذ على أيدي العابثين، منعه قادة العسكر الذين كانوا على صلة بالمتآمرين، ويتلقون منهم الهدايا والهبات، فعظم الخطب، واشتد الكرب. وتنادى الصعاليك إلى الاجتماع حول قصر مرسي، ورشقوه بالحجارة، وأشعلوا حوله النار، فتسلل مرسي خلسة خارج القصر حرصاً منه على تجنب الصدام، ورغبة في حقن الدماء، فقالوا إنما جبن عن لقائهم، وقال آخرون ليته أخذ على أيديهم حتى لا تضيع هيبة السلطان، وما علموا أن العسكر وغلمانهم وأبواقهم يأتمرون عليه جميعاً ليسقطوه. ثم قرر أعداء مرسي داخل المحروسة وخارجها أن يقطعوا الوقود عن الناس، ليثيروا عليه نقمتهم، وغرقت القاهرة في الظلام، واصطفت الدواب عند المحطات لتشبع نهمتها، وتذمرت العامة، ولعنوا مرسي في الأسواق، وقالوا: كيف ينام ملء العين، ونحن في ضنك وبلاء؟ قال سهم بن كنانة: واتخذ لفيف من الخارجين على مرسي ميداناً اسمه التحرير مقراً لهم، مطالبين فيه بعزله أو قتله، وما كان لهم أن يخرجوا لولا وقوف العسكر معهم، ودول خارج المحروسة تؤزهم أزا، واتخذ رجل عسكري اسمه سيسي خروج القوم حجة للانقضاض على مرسي وحبسه وتعطيل ولايته واتهامه بتحويل مصر إلى دولة دينية، وما كان ذلك لا لكرهه للدين، واتباعه غير سبيل المؤمنين.
بل ذهب سيسي إلى أبعد من ذلك زاعماً أن مرسي رق لأهل غزة في فلسطين، وتعاون معهم سراً ضد أعداء الله اليهود، وعدّ ذلك تهمة تستحق الحبس، وكان جدي يقلّب يديه متعجباً ويقول: كيف قبل قوم وقتها تهمة التعاون مع مسلمين مظلومين، وصفقوا للتعاون مع يهود محاربين؟
قال سهم بن كنانة: وخرج سيسي على قومه في زينته، فقال: ذروني أقتل مرسي ومن معه، إني أخاف أن يبدل دينكم، أو أن يظهر في الأرض الفساد.
واعتدى سيسي على المسلمين من أنصار مرسي، فقتل منهم عشرة آلاف يزيدون ولا ينقصون، وساق آلافاً آخرين إلى السجون، وأحرق بعضهم أحياء، ودنس جنوده المساجد، بل أحرقوها بمن فيها، وأهان الملتحين من المؤمنين وعذبهم، ونزع الحجاب عن المؤمنات، ومنع سير الناس في الطرقات، ومن خالف ذلك قتله على الفور، واستكبر هو وجنوده في الأرض، وظنوا أنهم إلى ربهم لا يرجعون.
غير أن الأمر لم يستتب له، إذ خرج الناس متحدين حظر التجوال، وهتفوا للإسلام والحرية والشرعية، ورفعوا لافتات يؤكدون فيها ولاءهم لمرسي، فجن جنون سيسي وزبانيته، وأوغلوا في الناس قتلاً وسجناً، واستنجد بحلفائه خارج المحروسة، فلم ينجدوه، إذا هلكت حجتهم، وفشلت حيلتهم، ولم تغن عنهم أموالهم وأولادهم. وثار أهل مصر عن بكرة أبيهم، يطالبون بحقوقهم، واستبسلوا في جهادهم، فأسقط في يد سيسي، وهزمه الله شر هزيمة، وعاد مرسي عزيزاً منصوراً، ودخل قصر الاتحادية فاتحاً، وأورث الله أنصاره أرض الكنانة، ودمر ما يصنع سيسي وقومه وما كانوا يعرشون.
قال سهم بن كنانة: وكان انتصار مرسي وأنصاره بعيد المنال، ولم يكن أحد يتوقع أن يعود الحق إلى نصابه، ولكن الله سلّم، وهو من قال في كتابه: «ما ظننتم أن يخرجوا»، وقال: «ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا، وكفى الله المؤمنين القتال، وكان الله قوياً عزيزا...، ...وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم، وأرضاً لم تطؤوها، وكان الله على كل شيء قديرا».
وتغنى الشعراء بتحرير مصر من دنس آخر الفراعنة، فأنشد أحدهم:
إنني اليوم في احتفالاتِ عرسي..
كلُّ حزنٍ طوتْه ليلاتُ أنسي..
أرقبُ النصرَ في عيونِ حبيبي..
يمسحُ البؤسَ في عيوني ويُنسي..
قال لي: الحبُّ بلسمٌ لجروحي..
والحنانُ الذي يلاطفُ حسي..
قلتُ لما سرى شذاه بصدري..
ذلك الفجرُ.. ضمّني الآن مرسي..
قال سهم بن كنانة: ومن عجب أن أهل مصر بعد ذلك اجتمعوا على حبه، وساروا على دربه، أما من حاربوه وسبّوه، فقد عرّاهم، لله أبوه!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق