قراءة وجه قرطبة
الشاعر الدكتور عبد الرحمن العشماوي
من أيّ نافذةٍ أُطِلّ وأنظرُ
وبأيّ ذهنٍ حاضرٍ أتذكّرُ
وأنا أرى الأعوامَ سدّاً دونه
ذهني وعزمُ تَذَكُّري تتعثّرُ
أنا هاهنا في واحةٍ أشجارُها
تاريخ أمتِنا العريقُ المُزْهِرُ
تتكاثف الأيّام حتى خِلْتُني
في لُجّةٍ أطوي العُبابَ وأَمخُرُ
مابينَ مَشرقِ شمسنا وغروبِها
في أرضِ أندلسٍ حوادثُ تَبْهَرُ
قصصٌ تُرينا كيف كان شموخنا
مثَلاً وجيشُ إبائنا لا يُقهَرُ
إني أشاهد طارقاً وجنوده
لمّا تآلفت القلوب وأبحروا
وأرى المضيق يكاد يهتف فرحةً
لمّا رأى داعي الصلاةِ يكبّرُ
الأرض تخبرني بمجدٍ باذخٍ
ولها لسانُ الصدق لمّا تُخْبرُ
ولأرض أندلسٍ حديثٌ صادقٌ
عنّا وقولٌ ثابتٌ لا يُنكَرُ
فهنا مساجدنا معالم عزّةٍ
في كلّ ناحيةٍ تلوح وتظهرُ
أنّى الْتفَتُّ رأيتُ أوْجُهَ إخوةٍ
نشروا هنا الدينَ الحنيفَ وبشّروا
ورأيتُ وجهَ الدّاخلِ الفذِّ الذي
بجمال مَخْبَرِهِ تأَلّقَ مَظْهَرُ
صقرٌ تَحدّرَ من قُرَيْشٍ أصلُه
نِعْمَ الأصولُ ونِعْمَ نِعْمَ الجَوْهَرُ
لمّا تجاوز ما تجاوز مُبحراً
فَرِحَ الخِضَمُّ به وفاز المبحِرُ
وبلاد أندلسٍ تصارع هَمّها
وخلافُها نارٌ بها تتسعّرُ
إني أرى أهداب قُرْطُبةَ التي
نظرتْ إليّ من المدامع تُمطِرُ
كانت تخاطبني بكلّ عبارةٍ
مكسورةٍ ولسانها يتعثّر
ياوجهَ قُرطبةَ الحزينَ كأنني
بك للمَلاحةِ قبلَ حزنكَ مصدرُ
وكأنني بك للجمال وللرضا
والحبّ رَمزٌ في الدّياجي مُقمِرُ
أنظرْ إلى وجهي لتعرفَ أننا
في الهمّ وجهٌ واحدٌ يتمعَّرُ
وانظر إلى قلبي لتعلم أننا
في الحزن قلبٌ واحدٌ يتفطّرُ
نحرتك دائرةُ التناحُرِ والهوى
والعالَم العربيّ مثلك يُنحَرُ
ياوجهَ قُرطبةَ الحبيب أنا هنا
كهناكَ قلبٌ بالهمومِ يُسعّرُ
لم نتّخذْ مما جرى لك عبرةً
فالحالُ حالكُ والمخاطرُ أكبرُ
ياوجهَ قرطبةَ الحبيبَ أنا هنا
بشموخ أيام انتصارك أفخرُ
وأنا حزينٌ حين جئتُ لأنني
أبصرتُ آثارَ السقوطِ تُكدِّرُ
فالأرض أرضي غيرَ أني مُوغلٌ
في غربةٍ ، دمعي بها يتحدّر
أبكي على شرفِ المساجد بعدما
صارت كنائسَ بالعقيدةِ تكفُرُ
تتنابحُ الأجراسُ في شرفاتها
ومناظر الصُّلْبانِ فيها تَقْهَرُ
ياوجهَ قُرطبةَ الحبيب ، لَئنْ طغى
حزني فإنّ رجاءَ قلبي مُزهِرْ
يتمرّسُ الأعداءُ فيما دبّروا
لكنّ ربّ الكونِ منهم أَقْدَرُ
عبدالرحمن بن صالح العشماوي
قرطبة الاندلس ١٤٣٥/٤/٣هـ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق