غنائم الغرب من الحروب الصليبية
عبدالعزيز كحيل
لا تكتفي الأقليَّة العَلمانية في البلاد الإسلامية بالمطالبة بتَحْيِيد الإسلام، والفصل بين أحكامِه وبين نظام الدولة، كما هو الأمر في البلاد الغربية، وإنَّما تُمْعِن في الطعن الصَّريح تارة والخفي تارة أخرى في مَرجعيته وتَجرُّده من المحاسن، ولا تنسب إليه أيَّ إيجابية، لا في الأخلاق، ولا في التشريع، ولا في النظرة إلى الكون والإنسان والحياة، ويُجَنُّ جنونها، وتتوتَّر أعصاب دعاتها حين يربط دين الله بالعلم، ويقول القائلون: إنَّ الإسلام يقوم في كلِّ مجالاته على المعرفة العميقة والعلم الرَّاسخ، وقد أقام بهما حضارة امتدَّت في الزمان، فدامت ثلاثةَ عَشَرَ قرنًا، واتَّسعت في المكان شرقًا وغربًا وشمالاً وجنوبًا، وغاصت عمقًا، فشَمِلَت حياةَ الفرد والمجتمع والأمم في العقائد، والأخلاق، والسُّلوك على أصعدة التجارة، والسياسة، والسلم، والحرب، والتربية، والاجتماع، والاقتصاد، والأدب، والفنِّ.
"ما للإسلام والعلم والحضارة؟ إنَّه فقط عَلاقة رُوحية بين الفرد ومُعتقداته الغيبية، بل هو في الحقيقة سبب تأخُّر المسلمين، وما داموا يقحمونه في شؤون السياسة والتنمية والحياة الشخصيَّة، فلن يزيدوا إلاَّ تقهقُرًا"؛ هذه قناعة العَلمانيِّين في بلادنا، لا يكادون يتزحزحون عنها قِيدَ أُنْمُلَة، ويرفضون أنْ نُناقشهم فيها، فلننظرْ في صفحات التاريخ، لعلَّ بعضَهم يتنازل عن كبريائه، ويُذعن للحقِّ، فيعود إلى صفِّ أمَّته التي يَدَّعي الانتصار لها.
نعرف ماذا جَنَت حروب الفرنجة - التي سمَّاها النصارى "الحروب الصَّليبية" - على المسلمين، لكن ماذا جنى منها الغربيُّون بعد تسع حملات متتالية تزعَّمها ملوكهم وقادةُ كنائسهم، وكان تَعْداد الجنود فيها بمئات الألوف؟
هذا ما لا يُكلِّف العَلمانيُّون أنفسَهم عناءَ البحث فيه؛ لأنَّهم مثل كلِّ المقلدين للمتغلِّب والمهزومين روحيًّا، يرتمون في أحضان الأفكار التغريبية الميِّتة والمُميتة، مُنبهرين بها، واقفين عند سطحها، لا يغوصون في أعماقها، ولا يبحثون عن تاريخ نشأتِها؛ لإدراك حقائقها، ومعرفة دقائق مسيرتها، وهذا الجهلُ قاد النخبة المنسلخة من مقوِّمات المجتمع إلى الدُّخول في حرب ضدَّ الإسلام من منطلق كَنَسِي عَفَّى عليه الزمان، ولعلَّ هذا الموقف العدائي الذي لم يتَّعظ بدروس التاريخ يُحتِّم علينا أنْ نرجع ببعض التحليل إلى الحروب الصَّليبية، باعتبار ذلك صفحةً منسيَّة من الصراع الفكري الثقافي العقدي، الذي انتصر فيه الإسلام، وانتصرت فيه الروح العلمية.
هل كانت الحروبُ الصليبية حروبًا استعمارية توسُّعية فحسب، أو هي مُواجهة بين ديانتين مُتجاورتين جغرافيًّا، كما يردِّد بعض الباحثين؟
هذا تفسير في غاية السطحية، بل في منتهى الزيف لمن تتبَّع أبعاد تلك الحروب، فمن خلالها كانت الكنيسة تريد القضاءَ على التحرُّر الفكري بوقف زحف المسلمين الذي من شأنه زَعْزَعَة العقائد النصرانية المصادمة لحقائق العلم والمجافية له، كما كانت تُحرِّض الملوك والإقطاعيِّين على حرب الإسلام؛ لتُضعف قوَّتهم وسيطرتهم؛ لتتعاظم قوَّتها هي، إضافةً إلى شغل الرأي العام عن خلافاتِها الداخلية المحتدمة.
إنَّ الحروب الصليبية كانت حروبًا ضد الأفكار التحرُّرية، ومن أجل تكريس الاستعباد الفكري للنَّصارى، كانت دفاعًا عن الجهل ضِدَّ العلم، الذي كانت أوروبا تخشاه وتبغضه؛ لأنَّها رأت مركزها المبني على الخرافة والاستبداد باسم الدين يتهاوى أمام الإشعاع العلمي المنبعث من بغداد وقرطبة والقاهرة وغيرها من الحواضر الإسلامية، والكنيسة كانت تعلم أنَّ جبروتها لن يصمد أمام المنهج العلمي، الذي يتبنَّاه المسلمون، والذي ما كان ليدع وزنًا لشعارات: "اعتقد ثم استدلَّ"، أو "أغمض عينيك واتَّبعني"... إلخ، وبدل أن تَحتضن النور الوضيء راحت تُحاول وقف زحفه؛ لتحافظ على امتيازاتِها المادية والأدبية في ظلِّ الظلام البهيم.
ولكنَّ المتتبع لحركة الأفكار وأحداث التاريخ يتأكَّد أن فترة الحروب الصليبية كانت إيذانًا بانحطاط الدين النصراني المحرَّف حيث أدَّى الاحتكاك بالمسلمين عقودًا عدَّة إلى استفاقة حقيقية في الصفِّ النصراني، فشجَّع العلماء والباحثين والمفكرين على الثَّورة على الكنيسة المتسلِّطة والانعتاق من قبضتها الحديدية، وهذا حَدَثٌ ضخم قلب كثيرًا من الموازين والحقائق والمسلَّمات والمناهج في أوروبا، وعرف بالمعركة بين العلم والكنيسة، وانتهى بعد تطوُّرات وسجال ومعارك طاحنة إلى انتصار العلم، عندما أثبت زَيْفَ الكتب المقدَّسة التي فرضتها الكنيسة على المجتمع، واعتبار تلك الحِقْبة زمن انطلاق الثورة على الكنيسة ليس رأيًا ذاتيًّا، فقد اعترف بذلك مؤرخون وعلماء كثيرون، وحسبنا شهادة مفكِّر وأديب نصراني مُبغض للإسلام هو "شاطوبريان".
إن النصارى الذين غَزَوْا بلادًا إسلامية، ومكثوا فيها زمنًا طويلاً - لمسوا مدى احتفاء المسلمين بالعلم، واحترامهم للعقل، ومدى تمسُّكهم بالمنهج التجريبي إلى جانب ما كانوا عليه من طيب الأخلاق، وحسن المعاملة، وعلموا أنَّ كل هذا يأمر به الإسلام، في حين تشجِّع الكنيسة الخرافة، وتؤجِّج الأحقادَ، وتعمل على تكاثُر الخطايا والخطَّائين؛ ليزدهر بيعُ صكوك الغفران، فانزاحت حجب التضليل عن أبصار المنصفين، ورجعوا إلى أوروبا غانمين للمنهج العلمي والتحرُّر الفكري، ولعله من المهم التذكير بكلِّ اعتزاز وجُرأة أنَّ حركة تحرير المرأة الأوروبية انطلقت بعد شرارة الحروب الصليبية في اتِّجاه تحسين مركز وظروف كائنٍ كان يُعَدُّ سببَ البلايا ورَمْزَ الشرِّ في نظر النصرانية المحرَّفة، فالمرأة الغربية مَدينة للإسلام في رفع مستواها وتكريمها، خلافًا للأفكار المعلَّبة السائدة، حتَّى عند بني جِلْدتنا من المفتونين بالغرب على غير بصيرة.
هكذا إذًا انهزم الأوروبيُّون عسكريًّا، ولكنَّهم غنموا آلياتِ الحياة الفكرية، وأحسنوا العمل، فبلغوا ما بلغه المسلمون من قبل في عِمارة الأرض، وزادوا عليه، كيف لا، وقد أخذوا من فلسفة الإسلام أهمَّ مسألتين أحدثتا انقلابًا معرفيًّا واجتماعيًّا في أوروبا، هما:
♦ القضاء على فكرة الحكم الإلهي التي كان يستند إليها ملوكُهم، الذين لم يكن للشعوب دخلٌ في تعيينهم أو محاسبتهم، وتبعًا لذلك - أو قبله - القضاء على سطوة الكنيسة وتحكُّمها في السياسة والمال والأفكار.
♦ التحرُّر من فكرة الخوف من الطبيعة التي درجوا عليها بناءً على تعاليم الكهنوت، وذلك أفسح لهم مجالَ معرفةِ الكون وأسراره، والسنن التي تحكمه، ومِنْ ثَمَّ استخراج خيراته على اختلافها.
بهذه الغنائم دخل الغرب التاريخَ حين أحسن استعمالها، فقد تحرَّر من الملك العَضوض من جهة، وخاض غمار استكشاف الكون من جهة ثانية، فانعتق من الاستبداد السياسي والكهنوتي ومدَّ يد البحث العلمي إلى أعماق البحار، وسطح الأرض، وجو الفضاء، وتمكَّن الإنسان من الإبداع في جميع المجالات، وهو لا يخشى أن يحرق حيًّا بتهمة الهرطقة، كما حدث لغير واحد من عباقرة أوروبا في ظل الجبروت الكنسي.
هذه حقائق يَصْدَع بها مؤرِّخون غربيُّون منصفون، لكنَّ النخبة العلمانية العربية تَهْرِفُ بما لا تعرف! وباسم العلم والحَدَاثة والتقدُّم! ولو أنصفت لاختصرت الطريق، وبدلَ أن تأخذ من التلميذ تَعْمِد مُباشرة إلى الأستاذ، لكن هذه مشكلتها: إنَّها لا تعترف بأيِّ فضل للإسلام؛ لأنَّه الطود الشامخ، والعَقَبَة الكَأْدَاء أمام حركة التَّغريب والانسلاخ من مقوِّمات الأصالة، وقد أجَّجت حيويةُ الإسلام أحقادَ الياسوعيِّين الجُدُد، فأعمَتْهم عن إبصار أيٍّ من مَحاسنه، ولو اعترف بها غير المسلمين أنفسهم، وما زلنا نذكر أنَّ شخصيةً بارزة تُمثِّل العرب في أكبر عاصمة أوروبية كان موقفها من قضية الحجاب المشهورة، التي اشتعل أُوَارُها في منتصف الثمانينيَّات من القرن العشرين بفرنسا - أخزى من موقف الفرنسيِّين أنفسهم؛ إذ وصف ذلك المسؤول الحجاب بأبشعِ الأوصاف، واتَّهم من يَرتدينه بالتخلُّف والظلامية والطائفية، وهي مصطلحات تعلَّمها من قاموس النظام العلماني الاستبدادي الجاثم على بلده الأصلي.
غيرَ أنَّ الإسلاميين يتحمَّلون جزءًا كبيرًا من مسؤولية انطماس معالم العقليَّة الإسلامية؛ إذ كان ينبغي المبادرة إلى تكثيف العمل؛ من أجل تجليتها نظريًّا وعمليًّا؛ لإقامة الحُجَّة على خصوم الإسلام، وبيان أنَّ الحرية والروح العلمية والذهنية المبدعة إنَّما هي بضاعتنا أساسًا، ولا يَكفي التغنِّي بالأمجاد، بل يَجب المنازلة في ميدان البَذْل والعطاء العلمي؛ لإسعاد البشرية بَدءًا بالأمة الإسلامية المقهورة، وتلك خير إجابة نُعطيها للغرب المتنكِّر، وللنخبة العاقَّة التي "تأكل غلَّتنا وتسبُّ مِلَّتنا" كما يقول المثل
نشر في 25/5/2010 ميلادي - 12/6/1431 هجري
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق