مصر بين التطبيع والتطويع
تعرضت مصر، في الخامس والعشرين من يناير 2011، لهزة عنيفة، تمخضت عن إرهاصات ثورة حقيقية، أول مرة في تاريخها الحديث، وارتفع سقف طموحات الناس، لتصل إلى حد تصور إمكان تحقيق التغيير الشامل، عبر حشود الجماهير في ميادين التحرير.
خصوصاً عندما قرر حسني مبارك بعد 18 يوماً، بإرادته أو تحت ضغوط خارجية وداخلية، أن يعلن تخليه عن منصب رئيس الجمهورية، ولم ينتبه كثيرون، وقتها، أن مبارك لم يقف عند تخليه عن المنصب، بل سلم السلطة إلى قيادة القوات المسلحة، تحت عنوان تكليف المجلس الأعلى للقوات المسلحة بإدارة شؤون البلاد. وتصورت الجماهير المحتشدة في الميادين أنها حطمت القيود بضربة قاضية، وستبدأ انطلاقتها الكبرى لتحقيق ثورتها المرتقبة، ولأن التاريخ لا يعرف لو، فإنه يصبح علينا أن نرجع إلى ما جرى في محاولةٍ لفهم ما وصلنا إليه، واستشراف ما يمكن أن يجري في مستقبل الأيام؟ وماذا علينا أن نفعل؟
ما جرى هو تحرك سريع لقوى الثورة المضادة، وهي متعددة، ولكن، يجمعها هدف واحد، هو إيقاف أي مد ثوري حقيقي بأي ثمن، وتعددت أساليب العمل المضاد ومستوياتها، وكما جرت في النهر مياه كثيرة، فقد أريقت على الطرق والميادين دماء كثيرة أيضاً. وتفرقت قوى الثورة، وتشتت اتجاهاتها، ففقدت قوة الدفع. صعدت جماعة الإخوان المسلمين، وحزبها السياسي الناشئ، الحرية والعدالة، إلى صدارة المشهد السياسي، وتم انتخاب رئيس الحزب رئيساً للجمهورية، بعد انتخابات صعبة، تميزت بالاستقطاب الحاد، بعد حصر المنافسة بين مرشح "الإخوان المسلمين" ومرشح محسوب على نظام مبارك والقوى التي انفجرت الثورة ضدها.
ومن دون العودة إلى أحداث ووقائع يعرفها الجميع، على مدى عام، جلس فيه الرئيس المنتخب على كرسي الحكم، ومن دون أن يتمكن من الإمساك بكل خيوط السلطة، وانتهى العام نهاية دراماتيكية، بعودة المجلس الأعلى للقوات المسلحة إلى صدارة المشهد.
وفى هذه المرة، كان القرار حاسماً، لا صوت يعلو على صوت هذا المجلس، باعتبار القوات المسلحة هي الوحيدة الأمينة على مصلحة هذا الوطن وهذا الشعب، وأنها قررت أن تضع خريطة للمستقبل، وتشرف على تنفيذها بنفسها، بمستقبل خالٍ من "الإخوان المسلمين"، وحزبهم والرئيس المنتخب المنتمي لهم، ومن كل من يؤيدهم أو يتعاطف معهم. مستقبل يجدد شباب تحالف قوى الشعب الذي يجب أن يكون على قلب رجل واحد، يقف خلف قواته المسلحة التي قدمت له رئيساً ليتولى الزعامة، ويجدد شباب النظام، ويبعث الروح في المشروعات العملاقة، وينتقل بمصر من كونها "أم الدنيا"، لتكبر وتصبح " قد الدنيا".
ولأن الأمر ليس بهذه البساطة، خصوصاً بعد زلزال 25 يناير وتوابعه، وما أحدثه من تصدعات مجتمعية حادة، هزت أركان النظام، وأحدثت فجوات عديدة بين السلطة والناس، ولم تعد العلاقات بين الحكومة والأهالي طبيعية، وأصبح المواطن المصري عصياً على عصا السلطة، على الرغم من كل مظاهر القوة وأدواتها، وعلى الرغم من كل أساليب القمع التي تمت شرعنتها، بإصدار ترسانة قرارات بقوانين فوقية.
وكان لابد من مخرج. وهنا، جاء دور كهنة السلطة، وهم كهنة كل سلطة في كل زمان، بحكم أنهم من سلالة سحرة فرعون.
حدد هؤلاء طريقين، لا ثالث لهما، الأول طريق التطبيع. بالطبع، ليس مع العدو الإسرائيلي، فهذا مفروغ منه. ولكن، تطبيع العلاقة بين السلطة، بتحويلها إلى نظام سياسي طبيعي، والشعب ليتعايش مع هذا النظام، ويتقبله، باعتباره نظاماً شرعياً، وليس سلطة انقلاب.
وهو ما يتطلب أن يشعر المصريون، وكأنهم في دولة تتمتع بنظام سياسي طبيعي، لديها دستور تمت الموافقة عليه، وعلى قمة السلطة رئيس تم انتخابه، وحكومة اختارها الرئيس المنتخب، ويتبقى البرلمان، وسيأتي أيضاً. هذا عن المؤسسات، ولكن تلك المؤسسات، في حد ذاتها، لا تعني شيئاً للمواطن بدون الممارسة. والممارسة تعني التنوع بين تأييد ومعارضة. المؤيدون موجودون، فمن أين نأتي بالمعارضة؟
هنا تحضرنا واقعة في عصر الخديوي إسماعيل، عندما أنشأ مجلس شورى النواب في مصر، وفي أول جلسة، أخبر رئيس المجلس النواب أنه جرت العادة في البرلمانات الغربية أن يجلس الأعضاء المؤيدون للحكومة في الجانب الأيمن من القاعة، والمعارضون في الجانب الأيسر، فانتقل كل النواب إلى الجانب اليمين. ضحك رئيس المجلس، وقال: ولكن أفندينا الخديوي يحب أن يكون هناك معارضة، فانتقل كل النواب المحترمين إلى الجانب اليسار.
هذا بالضبط ما فعلته جحافل الإعلاميين والمثقفين والنشطاء المؤيدين للسلطة، عندما تم إبلاغهم إشارة البدء في مرحلة تكوين المعارضة، لاستكمال تطبيع النظام. انتقلوا جميعاً، فوراً، إلى الجانب اليسار، وكل منهم يتسابق لتنفيذ إرادة النظام ليكون من معارضي النظام. وهكذا يصبح لدينا نظام سياسي طبيعي، يضم موالاة ومعارضة. هذا عن التطبيع الذي يجرى على قدم وساق، فماذا عن التطويع، والمقصود به أن يتم تطويع الشيء، ليؤدي غير ما هو ميسر له؟
كتوليد الطاقة من السبانخ، أو علاج الإيدز بكفتة عبد العاطي، وامتد الأمر إلى البشر، فتجد المحامي الذى تم تطويعه إلى مقدم برامج "مُعار.. يد"، أي معارض ومؤيد في نفس واحد، أو الإعلامي الذي تم تطويعه، ليعمل مخبراً للأمن، ويفتخر علناً! أيضاً، وصل الأمر إلى نائب رئيس الجامعة الذي تم تطويعه رئيس خلية استخباراتية، تضم الطلبة من بلدياته، للعمل مخبرين على زملائهم الطلبة الذين هم ليسوا بلدياته. وايضاً، يفتخر علناً.
تقدم عملية التطويع تلك، لنا، كل يوم نماذج مسخ ومشوّهة من البشر الذين كانوا إلى يوم قريب مصريين أسوياء.
أمثلة التطبيع كثيرة، وأمثلة التطويع كثيرة أيضاً، ولكن المنتج النهائي لهذه العملية، بالقطع، لن يكون دولة ديمقراطية، مدنية، حديثة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق